آخر صيغ تعديلات قانون سريّة المصارف: فعلها صندوق النقد!

أنجزت أمانة سرّ المجلس النيابي يوم أمس الإثنين صياغة آخر نسخ تعديلات قانون سريّة المصارف، حسب مقررات الجلسة التشريعيّة الأخيرة للهيئة العامّة، على أن يُحال القانون ممهورًا بتوقيع رئيس المجلس النيابي إلى رئاسة الحكومة. وإذا وقّع رئيسا الحكومة والجمهوريّة هذا القانون قبل انقضاء ولاية العهد، كما هو متوقّع، فسيكون لبنان قد أنجز مسارًا تشريعيًا ظل عالقًا لأكثر من سنتين وخمسة أشهر. مع الإشارة إلى أنّها المرة الثالثة التي يقر فيها البرلمان صيغة ما لهذه التعديلات، منذ بدء التفاوض مع صندوق النقد الدولي عام 2020، إلا أنّ رئاسة الجمهوريّة كانت قد ردّت الصيغتين السابقتين لعدم تطابقهما مع شروط الصندوق (راجع المدن).

صندوق النقد يفرض معظم شروطه

هذه المرّة، يبدو أنّ “الثالثة ثابتة”، وبات القانون على طريق الحصول على مصادقة رئاسة الجمهوريّة، خلال هذا الأسبوع، بعدما تم الامتثال للغالبيّة الساحقة من شروط الصندوق، ولم يعد هناك سبب لردّه مرّة أخرى. ضاق هامش المناورة أمام الكتل البرلمانيّة، واضطرّ رئيس لجنة المال والموازنة في الساعات الأخيرة قبل جلسة الهيئة العامّة إلى إجراء مفاوضات شاقّة مع بعثة الصندوق، ليأخذ بالاعتبار كل ما وضعته البعثة كشروط حاسمة لا يمكن التراجع عنها.

وفي خلاصة الأمر، سلّم النوّاب بما طلبه الصندوق على مضض، وتراجعوا عن معظم الأفخاخ التي فرّغت نسخ القانون السابقة من مضامينه وأهدافه، بل وتراجعوا عن الأفخاخ التي حاول تقرير لجنة المال والموازنة الأخير نصبها مؤخرًا. ببساطة: فعلها صندوق النقد، وفرض معظم معاييره في ما يخص هذا القانون، على النخبة السياسيّة التي حاولت التملّص من هذا الشرط الوارد في التفاهم على مستوى الموظفين مع لبنان.

آخر صيغ تعديلات السريّة المصرفيّة

هكذا إذًا، ستعالج آخر صيغ القانون، حسب نتائج الجلسة التشريعيّة الأخيرة، الكثير من الإشكاليّات التي تضمّنتها نسخ القانون السابقة، وذلك على الشكل التالي:

– في ما يخص صلاحيّات القضاء برفع السريّة المصرفيّة، صوتت الهيئة العامّة على إعطاء هذه الصلاحيّة للقضاء “المختص في جرائم الفساد”، بدل اعتماد صيغة “القضاء المختص في دعاوى التحقيق في جرائم الفساد”، التي تم اعتمادها سابقًا. الصيغة الجديدة، ستسمح للنيابات العامّة برفع السريّة المصرفيّة، خلال مرحلة التحقيقات الأوليّة وقبل تقديم الادعاء، إلى جانب قضاة التحقيق الذين ينظرون في الدعاوى بعد تقديم الادعاء. مع الإشارة إلى أنّ الصيغة السابقة كانت تحصر صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة بقضاة التحقيق وحدهم، بدل توسيعها لتشمل النيابات العامّة. وهذه المسألة يُفترض أن تعالج أبرز ثغرات الصيغة السابقة للقانون بما يخص صلاحيّات القضاء.

– ستنص الصيغة الجديدة على إمكانيّة حصول الجهات المختصّة على المعلومات المصرفيّة من المصارف مباشرةً، عبر توجيه طلبات رفع السريّة المصرفيّة إليها من دون المرور بأي جهة قضائيّة أو إداريّة أخرى، مع إزالة أي نص يمكن أن يحصر آليّات رفع السريّة المصرفيّة بهيئة التحقيق الخاصّة. وهذا البند، كفيل بمعالجة الكثير من الملاحظات، التي توجّست من إمكانيّة استعمال ثغرات القانون لفرض مرور طلبات رفع السريّة بهيئات قضائيّة أو إداريّة أخرى (كهيئة التحقيق الخاصّة أو المدعي العام المالي)، وهو ما كان سيفرغ القانون من مضامينه.

– بالنسبة إلى الإدارة الضريبيّة، ستتوسّع صلاحيّتها لتشمل رفع السريّة المصرفيّة لغايات التحقق والتدقيق والإلتزام الضريبي، بدل حصر هذه الصلاحيّة بحالات وجود شبهة التهرّب الضريبي، كما كان الحال في النسخة السابقة من القانون.

– تم إعطاء لجنة الرقابة على المصارف صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة بشكل صريح وواضح، ولغايات الرقابة على العمليّات المصرفيّة بشكل دائم، بدل ربط هذه الصلاحيّة بمسار إعادة هيكلة القطاع المصرفيّة كما كان الحال سابقًا. إلا أن المجلس أصرّ على حصر هذه الصلاحيّة بتقصّي المعلومات الإجماليّة عن مجموعات أو فئات من الحسابات (كالسؤال مثلًا عن القيمة الإجماليّة للحسابات التي يقل حجم كل منها عن 50 ألف دولار)، بدل إعطاء اللجنة صلاحيّة تقصّي تفاصيل حسابات معيّنة بالإسم.

ثغرات متبقية

رغم معالجة الكثير من الثغرات الجوهريّة في القانون، أبقت الهيئة العامّة على جزء آخر من هذه الثغرات، ربما لمعرفتها أنّها لم تكن فادحة إلى حد إمكانيّة الإطاحة بموافقة صندوق النقد على الصيغة النهائيّة. من هذه الثغرات مثلًا، الإبقاء على تشديد عقوبة كشف السريّة المصرفيّة، التي من شأنها تشكيل عاملًا معطّلًا أو رادعًا يحول دون الكشف عن المعلومات المصرفيّة في بعض الحالات المشروعة. وتجدر الإشارة إلى أنّ تشديد عقوبة كشف السريّة المصرفيّة في هذه التعديلات جاء مستغربًا، لكون هدف التعديلات كان توسيع نطاق كشف السريّة المصرفيّة، لا ترهيب أصحاب القرار في عمليّات تسليم المعلومات المصرفيّة، خصوصًا أنّ قانون سريّة المصارف ينص أساسًا على عقوبات لكشف السريّة المصرفيّة، ولم يكن هناك أي داعٍ لتشديد هذه العقوبات.

كما نصّت الصيغة النهائيّة على إعطاء حق كشف السريّة المصرفيّة عن العاملين في الشأن العام مفعولًا رجعيًّا يعود للعام 1989، ما يوحي بأنّ مفاعيل القانون لن تملك أي مفعول رجعي بالنسبة إلى سائر فئات المودعين. ومن جهة أخرى، تم ربط آليّات رفع السريّة المصرفيّة بالنسبة لبعض الجهات المختصة، كلجنة الرقابة على المصارف، بمراسيم تطبيقيّة يفترض أن تصدر في المستقبل، وهو ما سيعلّق تنفيذ القانون بالنسبة إلى هذه الجهات بانتظار صدور هذه المراسيم. وكما هو معلوم، يمثّل ربط القوانين بالمراسيم التطبيقيّة الأداة المثلى لتعطيل التشريعات الإصلاحيّة.

سيكون على اللبنانيين انتظار توقيع رئيس الجمهوريّة على القانون للتفاؤل بالنتيجة، كما سيكون عليهم انتظار شروع الجهات المختصّة بتطبيقه، للتحقيق من إمكانيّة وجود ألغام لم تظهر بشكل صريح في بنود القانون. فكما هو معلوم، مثّل هذا القانون قضيّة حياة أو موت بالنسبة إلى النخبتين الماليّة والسياسيّة في البلاد، اللتان استماتتا لتفخيخه وتعطيل مفاعيله طوال الفترة الماضية، وهو ما يرجّح أن يكون لهؤلاء خططهم المستقبليّة لتقليم أظافر هذا القانون في المستقبل.