إضراب القطاع العام يعمق أزمات الاقتصاد اللبناني

يشير احتجاج موظفي الخدمة المدنية الذين يشكلون العمود الفقري للحكومة في لبنان إلى المزيد من تآكل مؤسسات القطاع العام، التي تكافح بالفعل من أجل تحمل تكاليف التشغيل الأساسية.

ويعطي الإضراب لمحة قاتمة عن الكيفية التي يمكن أن يغرق بها البلد بشكل أعمق، إذا استمر المسؤولون في تأخير اتخاذ إجراء حاسم بشأن الإصلاحات المالية والإدارية الرئيسية التي يسعى إليها صندوق النقد الدولي لإعادة الاقتصاد إلى الحياة.

وفي خضم يأسه انضم طارق يونس، الذي كان ذات يوم من الطبقة الوسطى، بقوة إلى عشرات الآلاف من موظفي القطاع العام في إضراب مفتوح دام ستة أسابيع.

وكان يونس الذي يرأس رابطة موظفي الإدارة العامة يشعر بأنه مُساهم في المجتمع كمفتش في وكالة حماية المستهلك الحكومية، لكن الانهيار الاقتصادي أدى إلى تآكل دخله.

وعرقل الاحتجاج الحياة في البلاد مع تعليق حتى أبسط الخدمات الحكومية، حيث تم تأخير قضايا المحاكم ولم يعد بالإمكان إصدار بطاقات الهوية وشهادات الميلاد، كما توقف مراقبو الحركة الجوية عن العمل ليلا بداية من أغسطس.

وعلى مدار العام الماضي نظم سائقو النقل العام ومعلمو المدارس العامة إضرابات واحتجاجات متفرقة فاشلة، كانوا يأملون أن تكون بمثابة جرس إنذار للحكومة.

وقال يونس لوكالة أسوشيتد برس “لا أعرف كيف نفكر في الانتعاش الاقتصادي، إذا كان لديك هذا العدد الكبير من الناس الذين كانوا ذات يوم من الطبقة الوسطى وهم يعيشون الآن في فقر”.

وأضاف “نحن نمد أيدينا ونقدم تنازلات، لكن على الحكومة أن تفعل ذلك أيضا وتعطينا بعض حقوقنا”.

وتقول الرابطة إنه في غضون عام تآكلت مداخيل الموظفين وكباقي المواطنين انهارت القدرة الشرائية لرواتبهم بحدود 97 في المئة.

ويشير الكثيرون إلى عقود من الفساد والإدارة المالية الشائنة كسبب لتدهور الاقتصاد، وهو الآن في عامه الثالث.

ويقولون إن حفنة من أعضاء النخبة الحاكمة تسببت في أسوأ أزمة اقتصادية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث يعتبر ثلاثة أرباع السكان الآن فقراء.

ولم تُرفّع الحكومة رواتب موظفي القطاع العام منذ بداية الأزمة المالية في أواخر 2019 والتي فقدت خلالها الليرة أكثر من 90 في المئة من قيمتها مقابل الدولار.

وعلاوة على ذلك ارتفعت أسعار المواد الغذائية والبنزين والأدوية بشكل حاد بسبب ارتفاع التضخم.

وقال يونس إن “الرواتب كانت تؤمن نمط حياة الطبقة الوسطى بنحو 1300 دولار شهريا. لكن هذه القيمة تراجعت بسرعة إلى أقل من 70 دولارا”.

وفي بلد يبلغ عدد سكانه حوالي 6 ملايين نسمة، يعمل حوالي 350 ألف لبناني في القطاع العام وتمثل رواتبهم جزءا كبيرا من ميزانية الدولة.

ويقول يونس إن العاملين في القطاع العام يطالبون بزيادة صغيرة في الرواتب وتحسين الرعاية الصحية وراتب مواصلات مرن لمواكبة ارتفاع أسعار البنزين.

ورغم تأكيده أن الموظفين سيظلون يعملون بخفض كبير في الرواتب، يعتقد أن الزيادة “ستساعدنا على الأقل في الحصول على الحد الأدنى من الحياة الكريمة”.

ومع بداية الأزمة المالية كان يونس يندفع كمفتش حكومي لقمع الزيادات غير القانونية في الأسعار وتخزين البنزين والقمح والأدوية.

وتم تكليفه هو والعشرات من المفتشين الآخرين في قسم خدمات حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد بمراقبة الآلاف من الشركات.

وتقول حكومة تصريف الأعمال خلال رئاسة نجيب ميقاتي إنها لا تستطيع تحمل مطالب العمال لكنها عرضت علاوات نقدية مؤقتة وراتب مواصلات محسّنا بشكل طفيف.

وعاد بعض الموظفين إلى العمل، لكن يونس قال إن “أبواب الغالبية ما زالت مغلقة”. وتساءل “ماذا ستفعل المكافآت؟ هل ستساعدك في الوصول إلى العمل، أو دفع فاتورة الكهرباء أو فاتورة هاتفك؟”.

وأضاف “يمكنك أن تفعل واحدة من هذه، ولكن بعد ذلك لا يمكنك إطعام أطفالك أو اصطحابهم إلى المدرسة أو الحصول على الرعاية الصحية لهم”.

وتعثرت الأحزاب السياسية الحاكمة المتشاحنة في وضع خطة انتعاش اقتصادي والتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد على برنامج إنقاذ لإعادة هيكلة بنوك البلاد المعطلة وإصلاح اقتصادها المنهار.

ويؤكد سامي زغيب الخبير بمركز مبادرة سياسات الغد للأبحاث، ومقره بيروت، أن القطاع العام كان ضعيفا حتى قبل أن تبدأ الأزمة في أواخر 2019. ووصفه بأنه متضخم وغير فاعل وتشوبه المحسوبية والفساد.

وقال “استخدمت النخبة التوظيف العام كأداة في ممارساتها الزبائنية لكسب الدعم السياسي”. وأضاف “مجموعة منهم (من العاملين في القطاع العام) موظفون وهميون موجودون هناك فقط للحصول على شيكاتهم ولكنهم لا يحضرون إلى العمل أبدا”.

ويساعد خفض مخصصات رواتب القطاع العام في جعل الميزانية أقل اختناقا، ولكنه قد يتسبب في رد فعل عنيف ويؤثر على الولاء السياسي ويزيد من معدل الفقر المقلق بالفعل في لبنان.

ويرى زغيب أنه ليس لدى الدولة التي تعاني من ضائقة مالية برامج حماية اجتماعية قابلة للتطبيق لتخفيف الضربة. وقال “إذا قمت بطرد 20 أو 30 في المئة من العمال كيف يمكنك التأكد من بقائهم على قيد الحياة؟ ما نوع تدابير الحماية الاجتماعية التي تستخدمها؟”.

وتوقف لبنان عن تبني إصلاحات هيكلية أساسية مطلوبة للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد بشأن برنامج إنعاش اقتصادي شامل، مع لجوء الحكومة بدلا من ذلك إلى تدابير لسد الفجوة وتهدئة التوترات الاجتماعية.

ويبدو زغيب غير متفائل بأن هذا الوضع سيتغير. وقال “سيستمرون في ركل العلبة على الطريق دون الإضرار بأنفسهم سياسيا، مع بعض الترقيع”.

وأضاف “هذا ضار لكل من القطاع العام والجمهور اللبناني إلى حد كبير، الذي يحتاج إلى مؤسسات عامة”.

ويصر يونس على أن زياراته المتقطعة إلى مكتبه، الواقع على بعد بضعة طوابق تحت مكتب وزير الاقتصاد، لا تشير إلى نهاية الإضراب. ويقول إنه لا يزال يتابع بعض حالات الطوارئ المرتبطة بالأمن الغذائي، وخاصة الخبز.

وفسر ذلك الاهتمام بوعيه بمقدار معاناة الناس، و”لأننا جزء منهم، فنحن نختار أن نظل متاحين في هذا الشأن حتى في الحد الأدنى”.

واعتبر أن تعاطف بعض الوزراء الذين تفاوضوا مع العمال المضربين وحده لم يعد كافيا. وقال “مثلما نحن ملتزمون تجاه الإدارة العامة لمواصلة عملها، نأمل أن يفعل الحكام ذلك أيضا”. وتابع “إذا لم يكن هناك قطاع عام، فلا دولة ولا كيان”.