التنقيب بعد الترسيم: تهليل مبكر وثلاث سنوات حاسمة

سارَعَ المسؤولون اللبنانيون لإعلان الانتصار والمرحلة الجديدة المتمثّلة في اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. وظَهَّرَ كلّ طرفٍ الحدث على النحو المناسب له، لكنهم أجمعوا على أنه مقدّمة لتسريع التنقيب عن الغاز واستخراجه وإدخال لبنان إلى دائرة الدول النفطية. فطلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من شركة توتال المباشرة بالاجراءات التنفيذية للتنقيب، وأشار وزير الطاقة وليد فيّاض إلى أن “الجدول الزمني سيكون معجلاً ومسرعاً”. على أن الاستعجال المُستَثمَر سياسياً، لا يتطابق بالضرورة مع الخطوات اللوجستية التي تحتاجها عملية التنقيب. كما أن اتفاق الترسيم يحمل في طيّاته احتمالات العرقلة وربط أي خطوة مهمّة بالرضى الأميركي.

سنوات حاسمة

استولت شركة توتال الفرنسية على كامل الأضواء في لبنان وإسرائيل. هي الشركة المشغّلة التي ستقوم بترجمة المسوحات والأبحاث والدراسات والاتفاقات… وغيرها، غازاً قابلاً للتجارة، أو في الاحتمال الآخر، غازاً غير جدير بالاستخراج. ولتحديد النتيجة المثلى، على الشركة البدء بالأعمال.

في البلوك رقم 9 حيث يقبع حقل قانا، كميات غير مكتشفة بعد. يُعوِّل المسؤولون على كميات تجارية قادرة على انتشال لبنان من محنته الاقتصادية وانتشالهم من محنتهم السياسية. لكن حسابات الطبيعة وما تحت البحر، لا تتطابق دائماً مع الرغبات السياسية، وهذا ما يفترض بشركة توتال حسمه، خلال فترة 3 سنوات. أما استعجال ميقاتي وفيّاض، بالنيابة عن باقي أركان المنظومة الحاكمة، فلا يتعدّى معناه التأكيد النظري على حلحلة العقد وإمكانية شروع توتال بالأعمال.

وعلى هذا النحو، فإن موقف ميقاتي وفيّاض يعني “أن تضع توتال خطة عملها والدراسات الجيولوجية والأكلاف ومكان الحفر والاتيان بالحفّارة والبدء بمرحلة الاستكشاف”، وفق ما تقوله لـ”المدن”، خبيرة النفط، لوري هايتايان، والتي تشير إلى أن تلك الخطوات “يجب ان تحصل ضمن 3 سنوات، وهي مدة العقد الممدد له مع الدولة اللبنانية. ومقارنةً مع وتيرة العمل في البلوك رقم 4، فالأمر استغرق سنتين بين توقيع العقد في العام 2018 والحفر الاستكشافي في العام 2020. ولذلك فإن الأعمال في البلوك رقم 9 لن تنتهي سريعاً كما يُنظَر إليها”. وتأمل هايتايان أن تكون شركة توتال قد “استثمرت الوقت وجهّزت أبحاثاً ودراسات ومعطيات تسرّع عملها في البلوك رقم 9”.

والسنوات الثلاث الحاسمة لا تجد حتى الآن، مؤشرات علمية واضحة على ما ستحمله. فالأرقام والاحصاءات والأكلاف المتعلقة بالبلوك رقم 9 ومخزونه، لا تعدو كونها تقديرات يُرَوَّج لها إعلامياً بلا أي مستند رسمي صادر عن شركة توتال. والثابت الوحيد بنظر هايتايان، هو أن الشركة الفرنسية “أمامها عملية حفر أول بئر استكشافي في البلوك رقم 9، والإيفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في العقد مع الدولة. وعليها تالياً تحديد جدول زمني لأعمالها”.

الوصاية الأميركية

في اتفاق الترسيم بنود تضمن الوصاية الأميركية على أعمال التنقيب والاستخراج. وهذه الوصاية تمثّل من جهة، جدّية في التعاطي مع ملف الترسيم والتنقيب عن الغاز، من خلال الرغبة الأميركية في انهاء هذا الصراع بأسهل طريقة ممكنة، ومن جهة أخرى يمكنها أن تشكّل عقبة غب الطلب فيما لو رأت الولايات المتحدة الأميركية أو إسرائيل، مصلحة في عرقلة استخراج الغاز من الجانب اللبناني.

وفي متن الاتفاق، نصٌّ على أن الشركة المشغّلة “ينبغي أن تكون شركة أو شركات ذات سمعة طيبة، دولية، وغير خاضعة لعقوبات دولية، وألا تعيق عملية التيسير المتواصلة التي تقوم بها الولايات المتحدة، وألا تكون شركات إسرائيلية أو لبنانية وتنطبق هذه الشروط كذلك على اختيار أي شركات تخلف الشركات المذكورة أو تحل محلّها”.
في المضمون، يؤكّد الوصيّ الأميركي على أن الشركة المشغّلة، أي توتال حالياً، ويمكن أن تكون أي شركة أو شركات أخرى، لا يجب أن تكون خاضعة للعقوبات. وهنا يستبعد الأميركيون أي شركة روسية أو صينية على سبيل المثال، وأي شركة أخرى ليست على الهوى الأميركي. وأيضاً، يجب ألاّ تكون الشركات إسرائيلية أو لبنانية، وهنا يُغمَز من زاوية عدم حق الدولة اللبنانية في الحصول على حصّة شركة نوفاتك الروسية المنسحبة من الكونسورتيوم الذي كان مشكّلاً بينها وبين شركة إيني الايطالية وشركة توتال الفرنسية التي يبدو أن شروط الاتفاق فُصِّلَت على قياسها. وبانسحاب الشركة الروسية، تؤول حصّتها البالغة 20 بالمئة، إلى الدولة اللبنانية.

أيضاً، يعطي الاتفاق امكانية عبور توتال “بعض المناطق الواقعة جنوب خط الحدود البحرية. ولن تعترض إسرائيل على الأنشطة المعقولة والضرورية مثل المناورات الملاحية، ما دامت مثل هذه الأنشطة تحصل مع توجيه إشعار مسبق من المشغّل إلى إسرائيل”. وفي ذلك باب للاستنسابية الاسرائيلية في تقدير “معقولية” الأنشطة التي قد تقوم بها توتال حينها من الجانب الاسرائيلي للبلوك.

وتعليقاً على هذه البنود، من الواضح أمام هايتايان أن “أي شركة تريد الاستثمار في الغاز والنفط في لبنان، عليها أن تعرف أنها خاضعة للشروط الأميركية ولوصايتها وإشرافها وامكانية اطّلاعها على المعلومات المتعلّقة بالشركة والأعمال. وعلينا إذن الانتظار ومعرفة مَن يمكن أن يشارك في دورة التراخيص إلى جانب توتال، أو إذا كانت ستبقى هي المهيمنة”.

لا توقّعات مادية مرتبطة بمخزون حقل قانا في البلوك رقم 9. وهذا ما على شركة توتال تبيانه. لكن التمحيص في بنود اتفاقية الترسيم، يدل على أن هناك ما ينصّ على حصول إسرائيل من توتال، على حصة مالية هي بمثابة ضريبة على التنقيب في البلوك المذكور. وإذا لم تكن توتال على علم أو شبه تأكيد بوجود مخزون في البلوك، لما وافقت على الدفع. وهذا يعني في المقابل أن لبنان سيحقق أرباحاً. لكن كيف؟ وكم؟ ومن المستفيد؟

مكافحة الفساد أولاً

في هذا السياق، أكدت المبادرة اللبنانية للنفط والغاز (LOGI) في بيان لها، أن “قطاع النفط والغاز يمكنه أن يكون ركيزة محتملة للتوسع الاقتصادي في المستقبل، إلا أنه لن يحل الأزمة الاقتصادية الحالية في لبنان ولا ينبغي أن يكون الركيزة الوحيدة لاستراتيجية الانقاذ الاقتصادي”.

ولفتت إلى أن “نتائج الدراسة التي أجراها المحلل المالي الرائد Open Oil مع المبادرة منذ ثلاث سنوات، تشير الى أنه في السيناريو الأمثل، في حال اكتشف لبنان وطور حقلا ضخماً للنفط والغاز مماثل في الحجم لحقل ليفياثان الإسرائيلي 16 تريليون متر مكعب وكان قادراً على استخدام كل احتياطياته، فإن نصيبه من الإيرادات سيكون حوالي 6.1 مليار دولار من أموال اليوم على أساس 6 دولارات لكل MBTU إجمالاً على مدار 15 عاماً”.

أضافت: “أما السيناريو الأسوأ، في حال اكتشف لبنان وطور حقل نفط وغاز متوسط الحجم وقابل للتطبيق تجارياً مماثل في الحجم لحقل أفروديت القبرصي 4.5 تريليون متر مكعب، فإن حصة لبنان من الإيرادات ستكون حوالى 1.7 مليار دولار من أموال اليوم، على أساس 6 دولارات MBTU إجمالا على مدار 15 عاماً”.

ودعت المبادرة إلى “الإسراع في تطبيق سلة الإصلاحات المالية كمدخل أساسي لمكافحة الفساد من أجل أن يستفيد لبنان من ثروته النفطية”.