الحاكم يمحو خسائره برواتب الموظـفين

عشيّة الأول من هذا الشهر، قرّرت المصارف أن تسحب «جوارير» الليرة اللبنانية من آلات سحب الأموال (ATM). صباح أمس، فوجئ الزبائن بأنهم غير قادرين على سحب رواتبهم بالليرة، فيما فرضت المصارف عليهم سحبها بالدولار على منصّة «صيرفة»، بسعر صرف يتجاوز سعر الدولار في السوق الحرّة. إذ بلغ معدل سعر «صيرفة»، بحسب بيان مصرف لبنان، 21200 ليرة مقابل الدولار، بينما أقفل سعر السوق الحرّة على 19400 ليرة…

هذه واحدة من الروايات التي جرى تداولها أمس لتفسير شحّ الليرة اللبنانية في السوق، وفيها، بحسب المعلومات، الكثير من الدقّة. إلا أنها لم تكن الرواية الوحيدة التي تفسّر ما حصل. إذ تشير المعطيات أيضاً إلى امتناع صرّافين عن بيع الليرات وعرض المزيد من الدولارات للبيع في السوق. المشترك بين المصارف والصرّافين أن الطرفين اشتريا هذه الدولارات بأسعار مرتفعة ولا مصلحة لهما في التخلّي عن الليرات التي يملكونها الآن طالما أن سعر الدولار في اتجاه انحداري، وبالتالي فهم يعرضون دولاراتهم الغالية للتخلّص منها الآن مقابل الاحتفاظ بالليرات وخزنها لاستعمالها في الوقت المناسب عندما ينعكس الاتجاه في السوق.

المطّلعون على السوق يعيدون بناء الأحداث على النحو الآتي: مصرف لبنان أقرّ التعميم 161، ثم عمد الى تعديله وفتح عمليات بيع الدولارات للمصارف على مصراعيها في الربع الأخير من كانون الأول 2021. قبل أن يمدّد العمل بهذا التعميم لشهر كانون الثاني 2022. الأربعاء الماضي، قرّر المجلس المركزي لمصرف لبنان تمديد العمل بالتعميم لشهر شباط أيضاً. كل تمديد كان يترك انطباعاً بأن مصرف لبنان سيواصل تدخّله في السوق وضخّ الدولارات عبر المصارف لتحقيق مزيد من خفض سعر الدولار. كان هناك سباق على تحديد السعر المستهدف لدى مصرف لبنان. إنما في البداية، كان هناك رهان على أن سعر الدولار لن ينخفض كثيراً، بل سيعاود الارتفاع. غير أن أصحاب هذا الرهان أصيبوا بخيبة لأنهم لم يأخذوا في الاعتبار أن خطّة سلامة كانت تقضي بخفض سعر العملة الخضراء بالتوازي مع انطلاقة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والحفاظ على مستوى معيّن لتهدئة نفوس الناخبين. بمعنى آخر، الرهان فشل لأنه كان قصيراً جداً في المدى الزمني، وهو ما كبّد أصحابه خسائر. فبعض المصارف اشترت دولارات من مصرف لبنان من دون أن تحتسب جيداً لضغط السحوبات المتدنّي، ما أبقى لديها رصيداً بالدولار اشترته بسعر مرتفع نسبياً مقارنة مع ما بلغه سعر «صيرفة»، علماً بأن المصارف تريد بيعه بسعر يحقق لها ربحاً لا خسارة. كما أن بعض الصرافين اشتروا الدولارات من الزبائن بسعر مرتفع نسبياً.

إزاء ذلك، بدأت تنتشر أنباء عن قرارات اتخذتها المصارف بخفض سقوف السحب بالليرة، وإجبار الموظفين على سحب أموالهم بالدولار على السعر الأعلى. وشهدت بعض المناطق قطع طرقات وتحرّكات تصعيدية في الشارع، على أبواب إضراب اتحادات النقل البرّي. أي أن ما كان يحضّر له من قبل الاتحادات ليكون بالكاد «يوم إغلاق» لا هدف له سوى تصفية حسابات سياسية ضيّقة، قد يتحوّل إلى «يوم غضب» فعلي في الشارع موجّه ضدّ سلامة والمصارف والحكومة أيضاً. وأزمة كهذه إذا اندلعت، قد تتفاقم سريعاً لأنها مرتبطة بالعاملين في القطاع العام من إدارات عامة وعسكريين وأساتذة وسواهم… في مواجهة هذا الاحتمال، أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بياناً بعد ظهر أمس يشير فيه إلى أنه يمكن للمصارف التي تحتاج إلى سيولة بالليرة اللبنانية أن تحصل عليها مقابل بيع دولاراتها على سعر «صيرفة». عملياً، قرّر مصرف لبنان أن يشتري الدولارات بالسعر الأعلى وأن يتحمّل الخسائر هو بدلاً من المصارف.

هذه الخسارة التي تكبّدها مصرف لبنان تضاف إلى باقي الخسائر التي تكبّدها في الفترة الماضية في سياق عملية تعقيم السيولة التي يمارسها منذ نهاية كانون الأول 2021. عمليات كهذه لا تنتج سوى خسائر لمصرف لبنان، وهي تشبه تلك العمليات التي كانت يقوم بها مصرف لبنان لتعقيم السيولة في 2008 و2009. يومها كان التعقيم يتعلق بالدولارات الهاربة من الأزمة المالية العالمية نحو لبنان للاستفادة من فوائد باهظة لدينا. راكمت المصارف كميات كبيرة من التدفقات التي لم تعد تتحمّل كلفتها، فجذبها مصرف لبنان مانحاً المصارف أرباحاً فوق الأكلاف التي تكبّدتها. وها هو اليوم يمارس اللعبة نفسها لتعقيم سيولة الليرة التي خلقها بنفسه. خلال السنتين الأخيرتين، ضخّ مصرف لبنان نحو 35 تريليون ليرة وأتاح لسعر الصرف تعددية الأسعار واستعمل تضخّم الأسعار الكبير والمفرط لخفض خسائره وخسائر المصارف. سيدفع المقيمون في لبنان ثمن تعقيم هذه الأموال غالياً، كما دفعوا ثمن خلقها غالياً. فأهداف عمليات إصدار النقد وضخّه في السوق وتعقيمه واحدة، وهي بيد سلامة وحده.