الحكومة والتوظيف السياسي يدفعان بمستشفى الحريري إلى “الانهيار”

يعاني مستشفى رفيق الحريري الحكومي من أزمة مالية تهدّد استمراره، وليست أزمته المالية مستجدة أو مفاجئة، إنما وقعت نتيجة تراكمات ناتجة عن سياسات حكومية على مدار سنوات. بالمحصلة، يواجه المستشفى اليوم وضعاً مالياً دقيقاً يصعب تخطّيه، ما لم تُصغ الحلول العملية عاجلاً.

ويكفي أن نضع في ميزان مالية المستشفى 90 مليار ليرة تكلفة رواتب وأجور شهرية، حتى نستدرك عجز المستشفى عن الاستمرار بوضعه الحالي، لا سيما أن تكلفة الرواتب والأجور تفوق موازنة المستشفى بأكملها، حسب رئيس اللجنة المكلّفة بإدارة المستشفى الدكتور جهاد سعادة، الذي يقوم مقام المدير العام، رئيس مجلس الإدارة.

مطالب العاملين

ارتفاع تكلفة الرواتب والأجور لا تعني بالضرورة أن العاملين بالمستشفى يتقاضون رواتب كبيرة تخوّلهم تأمين معيشتهم، بل على العكس تماماً. فالرواتب متواضعة إلا أن تكلفتها كبيرة. ومرد ذلك إلى التخمة الحاصلة بأعداد الموظفين والمتعاقدين.

ونتيجة الأزمة الواقعة في المستشفى وما ينتج عنها من تأخير في سداد الرواتب، نفّذت لجنة مستخدمي ومتعاقدي وأجراء مستشفى الحريري اليوم اعتصاماً تحذيرياً، اعتراضاً على “سوء الإدارة” والتأخر في دفع الرواتب والمستحقات.

ويشكو أحد الموظفين بالمستشفى في حديث لـ”المدن” من أن الزيادة على الرواتب التي طالت العاملين بالقطاع العام، لم تطل العاملين بالمستشفى بشكل كامل “علماً أننا نعمل 35 ساعة أسبوعياً. وقد وُعدنا ببدلات المثابرة ولم نحصل على شيء”، على ما يقول الموظف.

مع الإشارة إلى أن متوسط أساس الراتب لموظف من الفئة الثالثة، أي الفئة الوسطى، يبلغ 250 دولاراً. وإذا ما أضيفت إليه كافة المساعدات يصل إلى 400 دولار فقط. ويقول موظف آخر “إن المساعدات التي حصلنا عليها، ورغم هزالتها، لم تراع فرق سنوات الخبرة والشهادات. وباتت الرواتب بين الفئات متقاربة جداً”.

النزاهة وحدها “لا تكفي”

وإذ يحمل المعتصمون إدارة المستشفى كامل مسؤولية الأزمة الواقعة اليوم، ويناشدون وزير الصحة للتدخل المباشر لتسوية الأمور، ووضع الحلول وتغيير الإدارة، ثمة من يفنّد الأزمة ويحذر من خطورتها، مع التأكيد على نزاهة الإدارة ممثلة برئيس وأعضاء اللجنة المكلّفة بإدارة المستشفى. ولكن “النزاهة وحدها لا تكفي”، فهناك ضغوط تستلزم إدارة حكيمة وإجراءات حاسمة، يقول مصدر إداري من المستشفى في حديث لـ”المدن”.

ويقول المصدر الإداري إن الازمة تعود إلى عدم تعيين مدير أصيل أهلاً لإدارة المستشفى من قبل مجلس الوزراء، وعدم التزام الحكومة والوزارات المعنية بتحويل المستحقات اللازمة للمستشفى. مؤكداً أن الإدارة لا تتحمل وحدها مسؤولية الأزمة اليوم، إنما هناك دور لوزارة الصحة والحكومة. ولفت المصدر إلى ضعف خدمات المستشفى حالياً، خصوصاً الخدمات الخارجية التي تشكّل مورداً أساسياً للمال في المستشفى. لكنه يعاني من سوء إدارة ونقص بالمستلزمات الطبية والاستشفائية.

الأزمة في مكان آخر

يعاني المستشفى من أزمات عديدة، لكن يبقى أخطرها وجود تخمة بالكادر البشري، يقول الدكتور سعادة في حديث لـ”المدن”. فالرواتب ارتفعت خلال عام أضعاف ما كانت عليه. وهي مستحقة بالطبع، ولكن المستشفى يتكلف على الرواتب شهرياً 72 مليار ليرة وسترتفع إلى 90 مليار ليرة (قرابة مليون دولار شهرياً) الشهر المقبل، حين نبدأ بسداد بدلات مثابرة للموظفين. ما يعني أن تكلفة رواتب الموظفين تفوق مداخيل المستشفى. وهنا نتحدث على الرواتب وليس الطعام ومواد التنظيف والمستلزمات الطبية وعموم التكاليف التشغيلية.

علماً أن تكلفة الرواتب حسب الأصول، من المفترض أن تبلغ 35 في المئة من موازنة المستشفى، إلا أن الواقع هو أن تكلفة الرواتب تبلغ 120 في المئة، يقول سعادة.

يعترف سعادة بوجود عراقيل تقنية مرتبطة بوزارة الصحة ووزارة المالية “ولكن مهما بلغت التحويلات المالية، فإنها لا تغطي تكلفة الرواتب. والسبب أن هناك تخمة بالعاملين في المستشفى”، يجزم سعادة سبب الأزمة، ويقول “لا يمكننا الاستمرار بهذا الشكل. يجب إيجاد حلول سريعة”. ويأسف سعادة لكون المستشفى الحكومي الوحيد في بيروت يواجه مخاطر وجودية سببها السياسات الحكومية المتعاقبة.

وعما إذا كانت تنوي الإدارة التخفيف من ضغط الموظفين بالمستشفى، بالنظر إلى التخمة التي يعانيها، يوضح سعادة بأن نسبة المتعاقدين بالمستشفى تفوق الـ50 في المئة. لكن يصعب القول إنه يسهل التعامل مع هذه الأزمة، لاسيما أن هؤلاء الموظفين يعيلون عائلاتهم ويعتاشون من المستشفى.

من هنا، يتحمّل مجلس الوزراء مجتمعاً مسؤولية الأزمة التي نعاني منها اليوم، يقول سعادة “فالمشكلة الأساسية بدأت من مجلس الوزراء الذي ساهم بشكل مباشر بعمليات التوظيف وإقرار زيادات من دون تأمين مداخيل”، لافتاً إلى أنه ليس ضد الزيادات على رواتب العاملين، وهي حق لهم، إلا أنه ضد التخمة بالكادر البشري.

ويشكو الدكتور سعادة تعرّض المستشفى لضغوط أخرى، تعود إلى كونه المستشفى الوحيد الحكومي ويستقبل كافة الحالات “هناك الكثير من الحالات التي ينقلها الصليب الاحمر إلى المستشفى بسبب عدم توفّر مأوى لها، ومنها على سبيل المثال حالات محزنة جداً كالوالد المتروك من أبنائه والسيدة المتشردة أو أولئك من غير المرضى الذين يحتاجون لرعاية فقط، هناك الكثير من الحالات التي تتكلف عليها المستشفى، فقط لأن ذويهم تخلوا عنهم”. ويسأل “كيف يمكن للمستشفى تغطية هذه التكاليف من دون مورد لها”.

ويشدد سعادة على أن الأولوية تبقى لعدم إقفال المستشفى. فإقفاله يعد كارثة. إذ أن غالبية اللبنانيين عاجزين عن دخول المستشفيات الخاصة وتحمّل تكاليفها.

من المتوقع أن يجتمع مجلس إدارة المستشفى غداً الخميس، للبحث في حل للأزمة المالية الحالية. ويبقى السؤال هل يمكن للإدارة الحالية حل أزمة ناجمة عن سياسات حكومية تمتد لسنوات، ما لم تتدخل الحكومة؟ وهل تضع الحكومة فعلياً مسألة استمرار المستشفى وإصلاح اوضاعه بين أولوياتها؟