الفساد المنظّم، معضلة قديمة وذهنية متأصلة

ظاهرة الفساد كإحدى نتائج التناغم بين المال والسلطة، أصبحت تهدّد الاستقرار السياسي والاداري والاجتماعي لأكثر الأنظمة السياسية، مما حدا بالامم المتحدة، منذ ثمانينات القرن الماضي، إلى استنفار أجهزتها لمواجهة هذه الظاهرة العالمية، والسعي الى إيجاد الوسائل الكفيلة بمكافحتها والوقاية منها.

في لبنان، لم يكن الحديث عن الفساد حديثاً نافراً في أية مرحلة من المراحل والعهود. فهو أصبح سلوكاً متأصّلا في حياة اللبناني، أو لنقل ذهنية غالبة ومقبولة، والأسباب كثيرة. فمنذ الاحتلال العثماني برزت ظاهرة بيع وشراء المناصب والمراكز الحكومية، وتعوَد الناس عليها وعاشوا معها وأصبحوا يأتلفونها ويفاجؤون بغيابها. فواليا دمشق وعكا كانا يبيعان المنصب من الأمير أو الإقطاعي الذي يدفع له المبلغ الأكبر من المال. وكان القناصل يدفعون للذين يخدمون مصالح الدول الاجنبية أكثر من غيرهم. وتضخمت ظاهرة شراء وبيع المراكز الى حدّ الكتابة على قبر أحد المتصرفين الذين حكموا جبل لبنان نهاية القرن التاسع عشر: «رنّوا الفلوس على بلاط ضريحه وأنا الكفيل لكم بردّ حياته».

وروائح الفساد والرشوة لم تكن غائبة عن الانتداب الفرنسي ولا عن غالبية العهود الاستقلالية وصولاً إلى أيامنا الحالية، دون أن ننسى سنوات الحرب الأهلية وما رافقها من بيع وشراء لكل المراكز والمناصب ولغالبية القيم والشعارات الوطنية.

كتشف الكثير من «مواهب» السياسيين الذين حكموا لبنان منذ بداية القرن الماضي. لقد تأصّل شعور عند المواطن اللبناني بأنّ الدولة عدو وليس صديقاً أو هو جزء منها، كون نشاطها كان في أغلب الأحيان يهدف الى تحقيق مصالح الحاكمين والمسؤولين في الدرجة الأولى وليس مصلحة الشعب. وما كان هذا الشعور ليتعمّق ويترسخ لولا ممارسات المسؤولين على مختلف المستويات، وفي كل العهود، التي كانت تصبّ في خانة تحقيق المنافع الشخصية لهم ولأتباعهم ولأزلامهم. هكذا استغل الحاكمون السلطة الى أبعد الحدود، واضطر المحكومون، أو الناس المغلوب على أمرهم، مكرهين، إلى رشوة الحاكمين وموظفيهم، لتأمين حصولهم على الخدمات المطلوبة.

ففي ظل الذهنية السائدة والمترسخة على مستوى السلطة في لبنان، لا يمكن للفرد أن يحصل على وظيفة كفرد، بل عليه أن يكون جزءًا أو عضواً فاعلاً في طائفة معينة أو ينتمي الى مزرعة زعيم معيّن. لذلك لم تعد تحصل المنافسة بين أفراد إلّا في حالات نادرة (كما كان يحصل في ستينات القرن الماضي، حيث شكّلت المباريات أحد المداخل المهمة للوظيفة)، بل تحصل بين حصص الطوائف والمذاهب والزعماء.

وضمن هذه التركيبة الإدارية، يصبح الموظف موظفاً عند جماعته، في مواجهة موظف آخر ينتمي ويعمل عند جماعة أخرى، وتتحول الدولة إلى مجموعة جماعات متناقضة في أغلب الأهداف، بدل أن تكون مجموعة أفراد متعاونين في وطن.

هكذا تحول الفساد أسلوباً يعتمده الحاكمون والمحكومون. «برافو عليه، عرف يظبط حالو» أو «حمار فات على الوظيفة نضيف وطلع نضيف» و «الشاطر ما بيموت»، عبارات تتكرّر على ألسنة كثيرين لتبرير ظاهرة الفساد. حتى أننا بتنا نعيش في مجتمع يشرعن الفساد وينظمه ويحميه وفق آلية محكمة تبدأ بالموظف الصغير وتنتهي بالمسؤول الكبير. وعندما تغيب قاعدة الثواب والعقاب، وتغيب قواعد المحاسبة والمفاضلة والجزاء… يذهب الصالح بجريرة الطالح، وتختلط المفاهيم والقيم، ويصبح الفاسد والمرتشي والسارق رموزاً للنجاح، بعد تولّي السلطة والمسؤولية.

إنّ معالجة ظاهرة الفساد يجب ألا تتوقف، وعليها أن تبدأ بتوعية المواطنين على قيم ومبادئ وقواعد سلوك نقية صالحة وخيّرة وأخلاقية. كما أنّه لا بدّ من تأهيل ومحاسبة حقيقيين للذين يرشحهم المجتمع لتولّي مسؤوليات سياسية وإدارية وعلى رأسهم القضاة. فمن غير المقبول أن يصبح تاجر المخدرات والمجرم أو السارق مسؤولاً في الدولة، ومن غير المقبول أن يسمح القانون لمن دمّروا الدولة ومؤسساتها وقتلوا ونكلوا بالأبرياء أن يتولوا إعادة بنائها. وعلى الشرفاء من اللبنانيين أن يستمروا في النقد والصراخ، ويجب ان لا تهدأ أصواتهم كي لا يرتاح الفاسدون ويتنعّموا بما سرقوا ونهبوا.