ثلاثة اقتراحات للحاكم

‏لقد لمسنا كمودِعين وكمواطنين جهود الحاكم بالإنابة الحثيثة ومحاولاته المستمرّة منذ أشهر لتغيير النهج ومعالجة جوانب الأزمة التي انكشفت منذ أكثر من أربع سنوات. لكن الأزمة كبيرة وآثارها عميقة ولعلّها أكبر من قدرة شخص واحد وطرف واحد في البلد على معالجتها من دون مواكبة من جميع السلطات ومن كافّة المواطنين. فأربع سنوات وأربعة أشهر من تأجيل المعالجات وشراء الوقت بقَهر الناس كانت على حساب مستقبل البلد وسمعته.

لا بُدّ من التأكيد في البداية على قناعتنا بأن ‏الحلّ القانوني والعادل لهذه الأزمة موجود منذ اليوم الأول لانكشافها ويعتمد على تطبيق القوانين اللبنانية السارية، ولكن ما عَطّل هذا الحل وغيره من الخطوات الضروريّة هو تحكّم منظومة مجرمة مستعدّة في كل وقت لحرق البلد وقتل الناس في سبيل خدمة بضعة آلاف من المرتكبين وتأمين إفلاتهم من المحاسبة.

نعلم أنه لا ينقص البلد ومؤسساته العِلم ولا الأفكار لمواجهة الوضع القائم، لكن من واجب كل مواطن أن يساهم في الإنقاذ وفي رفض تحويل البلد إلى مُعتقل لإبادة الشعب ودفن الحقوق. من هنا نتقدم بثلاثة اقتراحات قد تكون مفيدة في إطار الحل العادل والشامل للأزمة الراهنة.

أولاً – الرفع الطوعي للسريّة المصرفية

بما أنه لن يكون هناك اقتصاد ولا عمل مصرفي في لبنان من دون استعادة الثقة وهذه لا تُسترجع بقانون ولا بتصاريح شعبويّة، فلنبحث عن مدخل لمعالجة الأزمة تدريجاً.

وبما أن الإلغاء الكلّي للسريّة المصرفيّة والتدقيق في جميع الحسابات دونه عراقيل وتضارب مصالح هائل نجح حتى الآن في تجميد الحلول وإضاعة الوقت الثمين من عمر البلد،

نقترح فتح الباب للرفع الطوعي والكامل للسريّة المصرفية لكل من يريد التسريع في استعادة وديعته من المصارف اللبنانية على أن يتم تقديمه الى محكمة ماليّة خاصّة يتم إنشاؤها لهذه الغاية ويشارك فيها قضاة أجانب من بلدان مرّت بأزمات مشابهة. تقوم هذه المحكمة بالتدقيق في الطلبات والبدء بإعادة الودائع لأصحابها تدريجاً وخلال فترة معقولة مع الأخذ بالإعتبار أعمارهم وحاجاتهم.

هذا الرفع الطوعي والكامل للسريّة المصرفية سوف يكشف أمام المحكمة المتخصصة كامل تاريخ وحركة هذه الحسابات بما فيها الأموال التي دخلت وخرجت وتحوّلت من والى الخارج والفائدة التى تقاضَتها هذه الحسابات ونِسبتها، وعملة الحساب الأساسية وتحويلها الى عملة أخرى في حال حصوله. سوف تسمح هذه العملية أيضاً بالتحقق من شرعية مصادر الأموال وعملتها وأية عمليات مشبوهة أو نسب فوائد مُبالَغ فيها قد تكون قد حصلت عليها هذه الحسابات. من هنا يمكن الفصل في شرعيّة هذه الحسابات والبَت في ملفات أصحابها من المودعين ليتم بالتالي تحويلها الى مرحلة الجدولة وإعادة الوديعة.

وهنا تجدر الإشارة الى أنّه بالرغم من اختلاف المشاريع وتضارب الطروحات في ما خصّ أزمة الودائع، سوف يكون من الصعب جداً على أية جهة أو طرف أن يقف في وجه إعادة الودائع المشروعة، حتى مَن هم مِن دعاة عدم ردّ الودائع لأسباب وأهداف مختلفة، فهذه المدّخرات المشروعة هي دين قانوني على المصارف بالدرجة الأولى ودين أخلاقي على البنك المركزي وعلى الدولة اللبنانية والمجتمع بأكمله.

ثانياً – العملات الرقميّة للمصرف المركزي – BDL/CBDC

يمكن لمصرف لبنان إصدار عملته الرقمية الخاصّة والمضمونة بموجوداته من الذهب. هكذا يكون في تصرّف مصرف لبنان ما يعادل ٢٠ مليار دولار من العملات الرقميّة المشفّرة والمضمونة القيمة مع احتفاظه بموجودات الذهب. تكون قيمة وحدة الـ BDLDC دولار أميركي واحد وهي مقبولة للاستعمال في جميع التعاملات داخل لبنان مع وضع سقف حدّ أقصى للمحفظة الرقمية التي يمتلكها أي شخص أو فرد أو جهة واحدة لمنع احتكار هذه العملة الرقمية.

يمكن استعمال هذه العملة الرقمية لردّ جزء من الودائع المشروعة، ومع تحسّن الوضع الإقتصادي يمكن لمصرف لبنان إعادة شراء وجَمع هذه الـ ٢٠ مليار من العملات الرقميّة المضمونة بالذهب وإطلاق أنواع أخرى من العملات الرقمية CBDC لو أراد ذلك.

ثالثاً – المبادرة في بناء محفظة صندوق استعادة الودائع DRF

من الطرق التي يمكن اعتمادها في إعادة الودائع المشروعة إعطاء أصحاب هذه الودائع الخيار في تملّك أسهم في صندوق إعادة الودائع DRF. وتبدأ هذه العمليّة بإنشاء هذا الصندوق ووضع القوانين الناظمة له والبدء بتغذيته بالضرائب التخصصية التي تفرض على أرباح إعادة القروض أو ارباح صيرفة أو أموال التسويات للمتهرّبين من دفع الضرائب والأموال المُستعادة من الخارج وغيرها من مصادر التمويل.

بالإضافة الى الضرائب التخصصية يجب أن تنتقل الى مُلكيّة هذا الصندوق شركات وأصول تمتلكها المصارف اللبنانية ومصرف لبنان بما يوازي جزءاً من الخسائر المتحققة لدى هذه المؤسسات، وذلك في مقابل أموال الودائع المتبقية في ذمّة المصارف وحسابات مصرف لبنان.

وهنا ندعو مصرف لبنان الى المبادرة لتمويل هذا الصندوق، فليس من طبيعة عمل مصرف لبنان ولا من جوهر مهامه كمصرف مركزي تملّك شركة طيران أو كازينو أو عقارات تجاريّة.

في النهاية لا بدّ من تذكير سعادة الحاكم أن التعاميم لم تعد تنفع. فأشهر من التحضيرات والمفاوضات والعمل المضني لإصدار التعميم ١٦٦، والنتيجة انّه لن يكون له أي تأثير يُذكر على حياة المودعين. فلا ٤٠٠، ولا ٣٠٠، ولا ١٥٠ دولاراً تكفي لسد حاجات المودع المتقاعد الذي لا يملك أي مدخول آخر. فالفئات الأكثر تأثراً بأزمة احتجاز الودائع وتبديدها من قبل المنظومة السياسيّة-المالية هي الفئة التي وصلت الى مرحلة التقاعد مع انكشاف الأزمة، والتي لا تكفيها المبالغ المُستخرجة بشقّ النفس من التعاميم لشراء الدواء فقط من دون أن نتطرّق الى الحاجات المُلحة الأخرى.

أضف الى ذلك أن المصارف التي ارتكبت وتلاعبت ونجحت بالإفلات من المساءلة حتى الآن لا تتقيّد بالتعاميم. فهي على سبيل المثال لا تتقيّد بالتعميم رقم ٦٧٩ وتستمر في فرض الخوّات واقتطاع المبالغ الشهرية والدوريّة من حسابات محتجزة ومجمّدة تحت مسميّات مختلفة، منها «خدمة الحساب» Service Charges والتي تستمر بالإرتفاع العشوائي بالرغم من وضوح مندرجات التعميم ٦٧٩ الذي يمنع جميع هذه الخوّات المُبتدعة منذ انكشاف الأزمة. كما أن المصارف لم تطبّق حتى الآن التعميم رقم ١٥٤ رغم مرور سنوات على إصداره.

سوف يسجّل التاريخ والذاكرة أسماء الذين أضافوا الى مراكز المسؤولية من التزامهم وكفاءتهم وحلولهم المبتكرة في أعلى الصفحات. كما سوف يُذكر بالسوء أسماء آخرين أثروا من مراكزهم وأنزلوا الفقر والبُؤس على الملايين من اللبنانيين ولن ينفعهم دين ولا طائفة لا في هذه الحياة ولا في غيرها، إن وجدت.