عامين كاملين من إنهيار الليرة!

دفع انطلاق أحداث 17 تشرين أول عام 2019 وما رافقها من اقفال للمصارف، اللبنانيين إلى استعادة كابوس سقوط عملتهم الوطنية في الثمانينات، لا سيما أن الواقع الاقتصادي كان ينذر بالأسوأ وبأزمة عميقة تناولتها تقارير اقتصادية عالمية، محذرة من إنهيار وشيك للإقتصاد. علما أن أول ظهور للسوق السوداء في لبنان بحسب الاقتصاديين كان في تموز 2019، حيث بدأ يظهر اختلاف بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف بين الصرافين ومتداولي العملة.

في ظل هذا الواقع، هرع اللبنانيون الى تحويل دولاراتهم الى الخارج أو تخزينها في منازلهم، إما خوفاً من المستقبل وتحوّطاً لأي انهيار مرتقب للدولة، إما طمعاً بتحقيق أرباح هائلة عبر المتاجرة بالعملة.

كانت تداعيات الأزمة قاسية جداً على الليرة، فهوت بها دون رحمة، وإرتفع سعر صرفها مقابل الدولار متخطيا سقف ال 2٠ ألف في 17 تشرين أول 2021، فيما لا يزال سعر الصرف الرسمي (١٥٠٧ ليرة) على قيد الحياة نتيجة اعتماده في خدمات الكهرباء والاتصالات وتسجيل العقارات واستيفاء القروض المصرفية بالدولار.

ساهمت أحداث كثيرة في سقوط الليرة، أبرزها فقدان الثقة وتوقف تدفق رؤوس الأموال إلى لبنان، إضافة إلى قرار عدم دفع سندات اليوروبوند الذي كان بمثابة اعلان افلاس البلد، والعلاقة المضطربة التي ربطت حكومة حسان دياب بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومن ثم استقالة الحكومة عقب انفجار مرفأ بيروت الكارثي في ٤ آب ٢٠٢٠، وسيطرة الفراغ الحكومي على مر 13 شهراً على البلاد، فارتفع سعر الصرف من مستوى 8 آلاف ليرة في آب 2020 الى ما يفوق الـ 20 ألف ليرة في آب 2021، ليشهد تحسناً مع تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة وابصار الحكومة النور، لكن ما لبثت أن عادت الليرة أدراجها صعوداً مقابل الدولار مع تبدد الأجواء الإيجابية و استفحال الأزمات على مختلف الصعد والبدء فعلياً برفع الدعم عن كل المنتجات.

وتجدر الإشارة إلى إنه خلال عامين بقيت محاولات الدولة جارية لضبط سعر الصرف، إلا أنها كلها باءت بالفشل. بداية، جرى اعتماد سعر صرف 3900 ليرة لدى الصرافين من أجل تأمين العملة الصعبة للعمال الأجانب والطلاب في الخارج وتذاكر السفر للتخفيف من معاناة ارتفاع سعر الصرف وضبط ارتفاع الطلب على الدولار من السوق السوداء، إلا أن هذه المنصة سقط مفعولها بعد أشهر قليلة.

وبعد معارك ضارية مع الصرافين وتوقيفات طالت نقيب الصيارفة، جربت حظها الدولة مع منصة “صيرفة” مرة جديدة، على أن تعتمد سعر صرف 10 آلاف ليرة، إلا أن هذا الأمر لم ينجح أيضاً، حيث اصطدم الطلب على دولار المنصة بالكثير من الإجراءات، إضافة إلى اعتماد أسعار صرف عليها تخطت ال١٦ الف ليرة. علماَ أن اجتماعاً في بعبدا حاول لجم سعر صرف الليرة عبر ايقاف التطبيقات الهاتفية، فأتت النتيجة عكسية فسجّل آنذاك سعر الصرف ارتفاعاً صاروخياً.

ومما ساهم في سقوط الليرة أكثر، صم الدولة آذانها لكافة الإختصاصيين الذين أكدوا على عدم نجاعة محاولاتها والاجراءات التي تتخذها في لجم سعر الصرف كونها تأتي جميعها بعيدة عن المنطق الإقتصادي.

عام ٢٠١٩ .. سقوط العملة ينطلق!

شكلت أحداث 17 تشرين أول عام 2019 الشرارة الأولى لبدء إنهيار الليرة المريع. وفي حين كان سعر صرف الليرة مقابل الدولار ١٥٠٧ ليرة في تشرين أول ٢٠١٩، تراجع خلال الشهرين الأخيرين من العام مسجلا ١٩٠٠ ليرة في تشرين الثاني 2019 و٢٠٠٠ ليرة في كانون أوّل ٢٠١٩.

عام ٢٠٢٠ .. الرحلة

نحو سعر صرف 8000 ليرة

وفي عام 2020، ارتفع سعر الصرف من 2175 ليرة في 21 كانون الثاني إلى 8400 في 16 كانون أول، وشهدت الليرة طوال هذا العام تقلبات مستمرة إلا أنها سجّلت إرتفاع على وقع الكثير من الإختلالات التي أصابت حكومة حسان دياب والحملة التي شنت ضد حاكم مصرف لبنان وتعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ومن ثم إنفجار المرفأ في 4 آب، ووقوف لبنان أمام أزمة حكومية بدأت مع تأجيل موعد الإستشارات النيابية وتكليف مصطفى أديب تشكيل الحكومة الذي انتهى إلى اعتذاره، ومن ثم تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، إلا أن عام ٢٠٢٠ انتهى على أزمة حكومية مفتوحة مع التعنت الذي مارسه بعض الأفرقاء السياسيين في وجه الرئيس الحريري، رغم وجود المبادرة الفرنسية منذ شهر آب والجهود التي بذلها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون.

عام ٢٠٢١ .. إنهيار الليرة الكارثي!

وسيطرت أجواء الفراغ الحكومي على معظم الأشهر العشرة المنصرمة من عام 2021، حيث لم تنجح مساعي الرئيس الحريري في تشكيل الحكومة وبقيت الأزمة السياسية مفتوحة بعد أن فشلت كل المحاولات نتيجة تمسك الأطراف السياسية بمصالحها على رغم مظاهر الإنهيار الذي كانت تعم البلد. وما زاد الأمور سوءا وأدى إلى ارتفاع إضافي في سعر صرف الدولار، هو رفع الدعم عن معظم المواد الغذائية والمواد الأولية للصناعة والزراعة، الأمر الذي دفع بالتجار إلى التوجه إلى السوق السوداء للحصول على الدولار، رغم إبصار منصة صيرفة النور حيث واجه التجار الكثير من المعوقات في العمل عليها.

وبعد إعتذار الرئيس الحريري عن تشكيل الحكومة بلغ سعر صرف الدولار ذروته في تموز 2021 حيث تخطى سقف ال 23000 ليرة، إلا أنه انخفض إلى 16500 مع تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة التي أبصرت النور بعد وقت قصير على التكليف، فسار سعر صرف الدولار وسط هذه الأجواء التفاؤلية في مسار إنحداري وبلغ 13700 ليرة، إلا أنه ما لبث أن عاود الإرتفاع مع عودة الأجواء التشاؤمية إلى البلاد نتيجة الأزمات المعقدة الكثيرة من كهرباء وإتصالات ورفع الدعم عن المحروقات إضافة إلى الخلافات السياسية التي بدأت تطل برأسها منذ اللحظات الأولى للتكليف وإعلان تشكيل الحكومة. وبعد شهر على تشكيل الحكومة فقط، عاد الدولار أدراجه صعودا ليسجل في 17 تشرين الأول الحال إلى 20600 ليرة مقابل الدولار.

* ملاحظة: الأرقام المعتمدة حتى آذار ٢٠٢١ نقلا عن مبادرة غربال