لبنان وصندوق النقد: اتفاق على «شروط الاتفاق»

… وفي نهاية الجولة الثانية من المشاورات مع صندوق النقد الدولي، صدر بيانان منفصلان عن كل من الحكومة وفريق الصندوق، يعلنان توصلهما إلى اتفاق وصفه نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي بـ«اتفاق مبدئي»، فيما وصفه الصندوق بـ«اتفاق على مستوى الموظفين». دلالة التوصيف تكاد تختزل المشهد كلّه. فهذا الاتفاق يشبه «إعلان النوايا» الذي يتطلّب العبور منه نحو «الاتفاق النهائي» مساراً يمرّ إلزامياً بتنفيذ شروط مسبقة. وقد حرص الصندوق على تضمين بيانه هذه الشروط المسبقة بحذافيرها وتفاصيلها. بعض الشروط نصّ على إقرار في مجلس الوزراء، وبعضها الآخر نصّ على إقرار في مجلس النواب. بمعنى أوضح، لن يكون هناك اتفاق نهائي مع الصندوق يقترض بموجبه لبنان ثلاثة مليارات دولار، إلا بعد تطبيق هذه الشروط. وكان لافتاً أن فريق رئيس الحكومة التزم بتطبيق هذه الشروط قبل أن يعرضها على مجلس الوزراء.

هنا، تحديداً، تظهر أهمية حصول «تفاوض» مع صندوق النقد الدولي. ففي ظل الشروط المسبقة وعرضها في بيان علني مفصّل، نُسف مبدأ التفاوض من أساسه. لكن الصندوق لم يكتف بذلك، ففي سياق عرض الشروط المطلوبة والتي التزم لبنان بتنفيذها قبل الاتفاق النهائي، أعاد الصندوق رسم «مسرح الجريمة» التي أدّت إلى الانهيار، ثم حدّد نتائجها وآليات التعامل معها. وبحسب المعلومات، أتى ذلك بعد جولات عدّة قام بها رئيس بعثة الصندوق إرنستو راميريز ريغو، على مسؤولين في الإدارات العامة وممثّلي القطاعات المدنية من أصحاب العمل ورجال الأعمال وتجمّعات المودعين، فضلاً عن لقاءات بممثلي أحزاب سياسية. هذه اللقاءات، كالعادة، تفتح الباب أمام الاجتياح الخارجي للسيادة اللبنانية، إلا أنها تأتي برحابة صدر محلية من كل قوى السلطة، بل تجعل لبنان منبطحاً بالكامل أمام الصندوق.

واستجابة للشروط المسبقة، أشيع أمس أن قوى السلطة قرّرت التعامل بجديّة مع مطالب الصندوق، وأنها ستسعى من أجل ذلك إلى إقرار ما هو مطلوب منها في مجلس النواب قبل الانتخابات النيابية، أي خلال أربعة أسابيع كحدّ أقصى. لكن المطلعين على حجم العثرات التي قد تعترض إقرار القوانين المطلوبة من لبنان، يشيرون إلى شبه استحالة إقرارها، لا سيما أن أبرز هذه القوانين المطلوبة بعنوان «المعالجة الطارئة للقطاع المصرفي» والتي يفترض أن يسبقها إقرار مجلس الوزراء «استراتيجية إعادة هيكلة المصارف» هي محور استقطاب تحالف رأس المال مع قوى السلطة. فالاستراتيجية التي يفترض أن تعترف بالخسائر وأن تغطّيها جزئياً بمسح كامل لرساميل المصارف، ليست مقبولة من المصرفيين – أصحاب الرساميل ولا من غالبية القوى السياسية المتحالفة معهم. ويضاف إلى ذلك، أن إعداد القانون لن يكون أمراً سهلاً، لأن لبنان يتكّل على الصندوق لصياغة هذه الاستراتيجية بموجباتها وأهدافها ونصوصها القانونية، وهذا يتطلب مواءمة بين هذه الأهداف وبين النصوص القانونية الموجودة، أي إنها عمل ضخم يتطلب وقتاً غير قصير. ولا أحد يعتقد بأن مثل هذه الأمور ستمرّ بسهولة. فالتعقيدات ستكون على الفاصلة والنقطة، لا سيما أن هذه الطبقة مارست الإنكار العلني على مدى سنتين ونصف سنة، ويمكنها أن تمارس الإنكار المقنّع لبضعة أسابيع.

وإلى جانب ذلك، فإن القوانين الأخرى المطلوبة من لبنان ليست محل إجماع وليست جاهزة بالكامل. فعلى سبيل المثال، التعديلات على السرية المصرفية وفق التوجهات التي يطلبها الصندوق، والتي وردت في بيانه على الشكل الآتي: «موافقة البرلمان على مراجعة قانون السرية المصرفية لجعله يتماشى مع القانون الدولي ومعايير محاربة الفساد وإزالة العوائق أمام هيكلة فعالة للقطاع المصرفي والرقابة عليه، وعلى إدارة الضرائب، والتحقيق في الجرائم المالية، واسترداد الأصول»، لن تكون مسألة يسيرة في بلد ينخره الفساد نخراً. والفساد في لبنان ليس مسألة شخصية تتعلق بعمل لصوصي أو رشوة لموظف حكومي أو غضّ نظر عن معاملة ما، بل هو من أركان عمل النظام القائم وبنية المصالح المترابطة داخله. والسرية المصرفية إحدى أدوات تفكيك هذه البنية، بالتالي لن تكون مسألة سهلة حتى في ظل توقيع كل القوى السياسية الأساسية في لبنان. فالجزء الأكبر من هذه القوى تمثّل أعمدة النظام.

القانونان الجاهزان، أو شبه الجاهزين، هما قانونا الموازنة والكابيتال كونترول. بالنسبة للأخير، لدى مجلس النواب ثلاث نسخ منه، واحدة أعدت في لجنة الإدارة والعدل، والثانية في لجنة المال والموازنة، والثالثة أتت من الحكومة أخيراً. بعض التعديلات على أحد هذه القوانين قد تفي بالمطلوب. لكن الفترة الزمنية للتوافق على هذه التعديلات وفق مواصفات صندوق النقد أمر قد لا يعجب أو لا يناسب بعض قوى السلطة ذات الثقل الوازن في المجلس النيابي. أما في ما خصّ قانون الموازنة، فإن فيه مشكلة أساسية تتعلق بسعر الصرف المعتمد. وهي المشروع الوحيد الذي يمكن الانتهاء منه سريعاً بعد الاتفاق على سعر صرف متوازن.

لكن لنأخذ، مثلاً، أمرين مطلوبين من الصندوق: تقييم مدعوم خارجياً لأكبر 14 بنكاً، كلّ على حدة، وقيام مصرف لبنان بتوحيد سعر الصرف. إلى أي مدى يمكن إنجاز هذه المسألة في وقت قصير؟ تقييم المصارف ينطوي على إشكالية متصلة بسعر الصرف. رساميل المصارف وموجوداتها مقيمة اليوم بالدولار وبالليرة، فأي سعر سيعتمد لتقييم هذه الموجودات؟ وهل تعتبر هذه الموجودات أصولاً محلية مسعّرة بالدولار المحلي، أم بالدولار النقدي، أم بالليرة؟ ما هي المعايير التي ستعتمد للسعر العادل لهذه الموجودات؟ وأي سعر صرف؟

وإذا كان مصرف لبنان نفسه قد خلق أسعاراً متعدّدة لليرة مقابل الدولار ووثّق ذلك في تعاميم مثل الـ151 والـ158، والـ161، فإن الانتقال إلى سعر صرف موحّد ليس عملية سوقية سهلة، بل تتضمن إجراءات قاسية وصعبة وقمعية. وهذا أمر مرتبط أيضاً بإرادة مصرف لبنان للقيام بهذا التغيير في ظل حاكم مشتبه فيه بالاختلاس وتبييض الأموال في 7 دول أوروبية، ويواجه تهماً مماثلة في لبنان. ومن أبرز الشروط المسبقة «إتمام التدقيق في وضع الأصول الأجنبية لمصرف لبنان، لبدء تحسين شفافية هذه المؤسسة الرئيسية»، وهذا بند متفجّر بحدّ ذاته، إذ إن الحاكم لغاية الآن يرفض فتح دفاتره، تحت عنوان السرية، والإفصاح عما يملكه فعلاً بالتفاصيل والالتزامات المترتبة عليه.

في المحصّلة، ليست هذه الشروط سهلة التحقيق، لكنها ضرورية للحصول على اتفاق. وهو اتفاق خنوع لم يفاوض فيه لبنان على مصلحة مجتمعه واقتصاده، بل بُني على مزايدات سياسية تمنح الرئيس نجيب ميقاتي حق المطالبة برئاسة الحكومة في ما بعد الانتخابات النيابية. فالبيانات الصادرة أمس لا تحسم مسألة الفوز بالاتفاق، لكنها تحسم مسألة الشروط المسبقة مع صندوق النقد الذي ذاع صيته على مدى العقود الماضية في الإسهام في إفقار الشعوب وإخضاعها. فها هي مصر أصبحت «مدمنة» على الصندوق ولجأت إليه مرتين على الأقل بعد إعادة الهيكلة عام 2016 التي حصلت بموجبها على قرض بـ12 مليار دولار. ومنذ ذلك الوقت، تشهد تحوّلاً نحو المجتمع الاستهلاكي وانخراطاً أكبر في سياسة الخنوع والإدمان على التمويل الخارجي. وقد كان مفترضاً أن نناقش قبل كل هذه الشروط المسبقة أسئلة من نوع: هل نحن بحاجة فعلاً لصندوق النقد؟ ماذا نريد من الصندوق؟ كيف نحقق مصلحة المجتمع والاقتصاد من هذه العلاقة؟ هل سيرشدنا الصندوق إلى أي نموذج اقتصاد سياسي يمكن بناؤه في لبنان؟ وهل نعلم أي نموذج يصلح للبنان في ظل كل هذه التغيرات الإقليمية والدولية؟ طبعاً لم يجر هذا النقاش، بل كان هناك رأي واحد من شقين: مع الصندوق لإجراء تغيير سياسي، وضدّ الصندوق لأنه يمحو رساميل المصارف.