مسؤولية مصرف لبنان عن إدارته الكارثية للدولرة

يؤثر عن المؤرخ النقدي والمصرفي الفرنسي الاستاذ Rene Sedillot القول التالي: «في الاوقات المأزومة تطفو على السطح الممارسات المذمومة».

المتتبع لمنعطفات الازمة اللبنانية، يفجع بهول الانحرافات التي سبقت الكارثة ثم تلتها وحتى بالمخططات التي تعرض على انها للخروج منها والتي ليست في حقيقتها الا للتمويه وللتغطية على الارتكابات وتذويب الخسائر والودائع.

فداحة الانحرافات المرتكبة تمثلت بتجاوزات فاقعة للقانون، على الاخص قانون النقد والتسليف وشروحاته من دون اي رادع من اي سلطة اكانت تشريعية او اجرائية او قضائية.

نبدأ من آخر الفصول

آخر فصولها بيان صدر بتاريخ 21 آذار 2023 ونسبته وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي الى حاكم مصرف لبنان شخصياً من دون اشارة الى اطلاع المجلس المركزي عليه او الحصول على موافقته.

يذكر البيان انه بناء لقانون النقد والتسليف لا سيما المواد 75 و83 منه وبناء لموافقة دولة رئيس مجلس الوزراء ومعالي وزير المالية يعلن مصرف لبنان عن إجراء عملية مفتوحة ومستمرّة لشراء الأوراق النقديّة اللبنانيّة وبيع الدولار نقداً على سعر «صيرفة»، ويُحدّد بـ90 ألف ليرة مقابل كلّ دولار ابتداء من الثلاثاء 21 آذار 2023.

يمكن للجمهور أن يسلم الليرة النقدية الى الصرافين من فئة «أ» أو إلى المصارف العاملة ويتسلم الدولار بعد ثلاثة ايام على ان تسجل كل العمليات على منصة صيرفة.

ويمكن للمصارف التي تعود عن اضرابها المشاركة في هذه العملية التي هدفها الحد من ارتفاع سعر صرف الليرة في السوق الموازية، والمحافظة على قيمة الودائع بالدولار المحلي.

في الشكل.. هناك جملة ملاحظات

1. البيان يتحدث عن عملية صيرفة مفتوحة ومستمرّة لشراء الأوراق النقديّة اللبنانيّة مقابل الدولار النقدي مستندا الى تفسير منحرف للمادتين 75 و 83 نقد وتسليف. فالاولى (75) تتحدث عن سوق لتبادل العملات على شاكلة السوق المشار اليه في قانون بورصة بيروت تتم فيه مبادلات العملات وفقاً للقواعد والاصول والشروط التي تحكم اسواق القطع وليس كتلك الخاصة بـ « صيرفة».

اما المادة الثانية اي المادة 83 فتتحدث عن عمليات بيع وشراء «مباشرة» يقوم بها مصرف لبنان مع الجمهور، وهذا ما يتعارض مع الآلية المعروضة في البيان وهي التعامل من خلال الصرافين والمصارف التي تعود عن اضرابها.

2. يحدد البيان مرماه بالحد من ارتفاع سعر صرف الليرة في السوق الموازية. كلام يبدو وكأنه في غربة كاملة عن الواقع المتمثل بفقدان الليرة لأكثر من 97% من قيمتها ما يفترض العمل الحثيث على اعادة رفع سعر صرفها لاستعادة اللبنانيين ولو الجزء البسيط من مداخيلهم، لا الحد من ارتفاعه.

3. كذلك يذكر البيان ان الهدف من صدوره «المحافظة على قيمة الودائع بالدولار المحلي» من دون توضيح ما المقصود بالدولار المحلي؟ هل هو الدولار النقدي وقد اشار اليه البيان صراحة في معرض كلامه عن آلية عمل «صيرفة»؟ او الدولار المصرفي المغطى بالدولار القانوني لدى المصارف المراسلة مباشرة او من خلال ودائع المصارف الدولارية لدى مصرف لبنان؟ او اخيرا وهو الراجح الودائع الدولارية التي تمت ليلرتها او هي بمعرض الليلرة سنداً لتعاميم مصرف لبنان ذات الصلة والتي تقضي برد الوديعة المصرفية بالعملة الاجنبية كلياً او جزئياً، بالليرة اللبنانية

ان المناسبة فرصة للكلام عن الانحرافات التي سجلت في سياسة الدولرة التي اعتمدت وأدت الى الكارثة التي تعيشها البلاد راهنا.

الدولرة عالمياً… البداية مع إعلان نهاية «بروتون وودز»

نتج عن قرار الرئيس الاميركي نيكسون بفك الارتباط بين الدولار والذهب معلناً نهاية عصر اتفاقية بروتون وودز وضع البلدان الناشئة امام خيارين (1) تعويم عملتها او(2) ربطها بالدولار ضمن هامش تقلب معين.

في الحالة الأولى، كان عليها قبول تقلبات متنوعة وعالية في عملتها.

في الحالة الثانية، كان عليها القبول بحصول هجمات مضاربة تضع امام الاختبار مصداقية السياسات الاقتصادية المعتمدة على الاخص في مكافحة التضخم والعجز.

والدولرة قد تكون كاملة عند اعتماد الدولار العملة القانونية للبلد كما حصل عام 2000 في السلفادور والاكوادور،

وقد تكون جزئية ودرجتها يمكن تلمسها من خلال وزن العملة الأميركية في الديون السيادية والودائع المصرفية وفي سائر العمليات.

ارتفع الطلب على الدولار عالمياً بشكل مطرد منذ التسعينات وهي الفترة التي تزامنت مع سقوط جدار برلين ولاحقاً لتأسيس منظمة التجارة العالمية وانتشار شعار العولمة، ثم شهد تراجعاً طفيفاً بعد ظهور اليورو، لكنه عاد الى زخمه واكثر بحيث بات تداول ثلثي فئة الـ 100 دولار خارج الولايات المتحدة الاميركية بداية عام 2012. لدينا دليل واضح بان الدولار ولتاريخه عملة دولية تناسب شرائح واسعة من الميزانيات العمومية للمصارف والقطاع الخاص وايضاً المحافظ الفردية.

مزايا الدولرة

تساعد الدولرة البلدان على الاقتراض بالدولار الاميركي بمعدلات أقل مما لو كانت تقترض بعملتها وتضمحل لديها وفي تعاملها مع الاخرين مخاطر الصرف الأجنبي، كما تساعد على اتساع دائرة المتعاملين معها ممن يعتمدون الدولرة، و تمنح الدولة التي تعتمدها سهولة في ولوجها الى العولمة وتحفظها من العزلة.

المساوئ والمحاذير

بالمقابل تجعل الدولرة الدورة الاقتصادية، على الاخص أسعار الفائدة، أكثر ارتباطاً بدورة الولايات المتحدة. ولا تعتبرحلاً سحرياً لتعزيز النمو او خفض التضخم او حلاً يحمي من الأزمات وهروب رؤوس الأموال، كما توضح ذلك تجارب عدد من الدول على رأسها باناما والأرجنتين والمكسيك. كذلك لا تكفي الدولرة لوحدها لطمأنة المستثمرين في حال وجود مشاكل مالية وقصور في النظام المالي للبلد المعني. ايضاً ازمة المديونية بالدولار قد تكون اقسى واعمق في ما لو كانت بالعملة الوطنية.

وإذا كانت الدولرة تحمي النظام المصرفي من خطر تخفيض قيمة العملة، فانها لا تقضي على جميع مصادر ازماته كما يتوهم البعض، وهي تقوض دور المصرف المركزي كمقرض الملاذ الاخير في حالات الطوارئ.

ويرى البعض في ردهم على الاصوات التي تنادي بالتخلص من الدولرة لاستعادة السيادة النقدية ان هذا الامر ليس بالسهل ويتماهى مع القرار بالتوقف عن استعمال مخدر قوي.

تجربة دولرة لبنان… قبل الطائف وبعده

الدولرة في لبنان هي دولرة جزئية منذ البداية وقد اتسعت مساحتها باضطراد مع الوقت. ففي مرحلة السبعينات والثمانينات الماضية ارتفعت وتيرة فتح الحسابات المصرفية بالدولار حفاظاً على قيمة المدخرات بفعل التراجع بسعر صرف الليرة نتيجة التقاتل الدامي الداخلي وسقوط البلاد في اتون احتلال عسكري ووصاية خارجية، وانشئت بنهاية هذه المرحلة غرفة مقاصة خاصة بالشيكات المسحوبة بالعملات الاجنبية.

بعد اتفاق الطائف دخل لبنان خلال النصف الثاني من التسعينات مرحلة جديدة هي مرحلة الاستقراض الرسمي بالدولار من الاسواق الدولية. وكانت اهم الحجج لذلك ان الامر اقل تكلفة لتمويل عملية اعادة الاعمار بسبب ارتفاع معدلات الفائدة على الليرة اللبنانية، وان الدولرة تسهل ولوج العولمة على الاخص المالية، وان الامر تتطلبه سياسة الاستقرارالنقدي كما وضرورة التجهز لمرحلة السلام في الشرق الاوسط التي بانت بوادرها لمدة وجيزة من الوقت آنذاك.

لم تضمن الإستقرار المالي

سريعاً تأكد ان الدولرة الجزئية لا تعني الاستقرارالمالي. فالموازنات العامة التي اقرت كانت على الدوام مثقلة بعجوزات تم التصويت في قوانينها على تغطيتها باصدارات سندات خزينة ويوروبوندز ما زاد باضطراد من حجم المديونية العامة بالدولار. وحصل احياناً افراط في اصدار سندات اليوروبوندز بأكثر مما تتطلبه الأوضاع المالية وايضاً لغايات نقدية بحتة دعماً للاستقرار النقدي وبدون اي سند قانوني. الى ان اتت تقارير متعددة من صندوق النقد الدولي تحذر من مغبة انكشاف المصارف على السندات السيادية فتراجع الاكتتاب بها لصالح الاكتتاب باصدارات مصرف لبنان.

مؤتمرات باريس أسهمت في الإنحراف

مؤتمرات باريس 1و2و3 أسست لإضافة جديدة في مساحة الدولرة فقد اطلق مصرف لبنان بنتيجتها، وبتفسيرات منحرفة للمادتين (81-2) و(76- و) من قانون النقد والتسليف توظيفات الزامية بالدولار مدرة للفوائد يتعين على المصارف تكوينها لديه تحت طائلة تعرضها للعقوبات المنصوص عليها في المادة 77، علماً ان العقوبات المعنية تتعلق حصراً بعدم تكوين الاحتياطي الالزامي المشار اليه في (المادة 76-د)

ماذا كشف صندوق النقد؟

وقد كشف تقرير وضعه وفد من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في كانون الثاني عام 2017 ضمن اطار برنامج تقييمي للقطاع المالي اللبناني The Financial Sector Assessment Program FSAP، عن اطلاق مصرف لبنان شهادات ايداع «طويلة الاجل» وهو امر يخالف بشكل صريح المادة(81-2) التي تذكر ان شهادات الايداع تصدر فقط مقابل الذهب المتلقى منه، كما ان المادة المذكورة تنص في (الفقرة 7 ) منها على شرطين لاقتراض مصرف لبنان من المصارف لم يتم التقيد بهما وهما ان يكون الاقتراض (1) لمدة «قصيرة الاجل» لا طويلة الاجل» و(2) وضمن مهامه كمصرف مركزي حصرياً.

فيضان السيولة ثم القتال في سوريا

بعد ازمة الرهونات العقارية الاميركية العام 2008 فاضت السوق اللبنانية لحوالى السنتين واكثر. وكغيرها من اسواق الدول الناشئة بالرساميل النازحة من الغرب وذلك لغاية انطلاقة الاحداث السورية عام 2011 حيث بدأت التحاويل الدولارية الى لبنان بالضمور تدريجياً في مؤشر واضح الى الاثر السيئ والمباشر على الاستثمار في البلد للخيارات التي اعتمدتها المقاومة المسلحة بالقتال خارج الحدود خلافاً لمفهوم المقاومة الذي يعني مقارعة العدو على الارض المحتلة، وحولوا المقاومة الى قتال استباقي في الخارج تذمه وثائق الامم المتحدة وتصنفه من قبيل «الحروب البربرية». وافضى الامر بالنتيجة الى ارتفاع العجز في ميزان المدفوعات من دون ان يدفع هذا القيمين على الامور النقدية الى ادخال اي تعديل على سياسة تثبيت سعر الصرف تبعاً للتغير الخطير الحاصل في الامدادات الدولارية.

إندلعت الانتفاضة وبدأ انكشاف المستور

لاحقاً اندلعت انتفاضة ضد الطبقة السياسية عمت لبنان واغلقت بسببها المصارف لعدة ايام قامت خلالها ادارات الاخيرة بتنفيذ طلبات مسؤولين نافذين لاجراء تحويلات ضخمة الى الخارج مقابل تقييد سحوبات وتحويلات المودعين العاديين في ابشع ممارسة مصرفية.

موقف المسؤولين المعنيين كان معيباً فقد تلكأوا في اتخاذ الاجراءات السريعة والطارئة والمتعارف عليها في هكذا حالات من اقرار كابيتال كونترول ورفع كلي للسر المصرفي للتحقيق في ما حصل توطئة لاعلام الناس بحقيقة ما جرى كما حصل في ايسلندا، واحالة المرتكبين والمقصرين امام القضاء توصلاً لاطلاق خطط النهوض واستعادة ثقة المجتمع الدولي. وانصبت اهتمامات هؤلاء المسؤولين بالعكس على تخريج مشاريع قرارات اعلن عنها بانها استثنائية على السحوبات لكنها امتدت لاكثر من ثلاث سنوات وايضاً تخريج قوانين براقة العناوين على شاكلة «خطة تعافٍ» ولكنها بالمضمون خطة للتمويه واخفاء الارتكابات واطفاء الخسارات بشكل احتيالي ولوأد ما امكن من مخالفات قبل تشرين الاول 2019 عن طريق سن تشريع يحمي من الملاحقات القضائية لمرتكبي هذ المخالفات.

وتكشف علناً ما كان يحكى سراً منذ التقرير التقييمي لصندوق النقد الدولي لعام 2016 عن تقييم الوضع المالي في لبنان عن وجود خسارة قيمتها حوالى الـ 40 مليار دولار تم اخفاؤها بمحاسبة مصرف لبنان وكشف عنها لاحقاً وعن ارتفاعها الى ما فوق الـ 70 مليار دولار بعد دخول صندوق النقد الدولي على الخط.

كان يجب تكوين احتياطي لمجابهة الأزمات

الاستاذان Andrew berg و Eduardo Borensztein ذكرا في كتاب لهما صدر عن صندوق النقد الدولي بعنوان

Dollarisation Integrale

Avantages et Incovenients

ان من اهم الامور التي يجب الانتباه اليها من قبل الدول التي تعتمد خيار الدولرة هو ضرورة تكوين مصرفها المركزي لمخزون كاف من الدولار او العملات الاجنبية القوية يمكّنه من مجابهة الازمات الطارئة حتى لا يضطر للجوء الى مطبعة النقد لايفاء الالتزامات الدولارية ما سيكون الخطوة الاولى في اطلاق التضخم التصاعدي hyperinflation.

دور مصرف لبنان في خلق الدولار المحلي (اللولار)

التحذير المشار اليه على اهميته وخطورته بالنسبة للوطن لم يعره مصرف لبنان الاهتمام المطلوب بدليل كشف الازمة ليس فقط عن تخلفه عن تكوين الاحتياطي المطلوب، بل على النقيض تسجيله خسارات فادحة تم اخفاؤها في قيوده المحاسبية وكشفت عنها الازمة بتعثره بامداد المصارف بالسيولة الدولارية التي اودعتها لديه. وكان اقتراحه، اي مصرف لبنان، لمعالجة الاخفاق المحكي عنه رد ودائع المصارف وتوظيفاتها الدولارية لديه بالليرة اللبنانية، كما ورد المصارف الودائع الدولارية لديها الى اصحابها كلياً او جزئيا بالليرة وباسعار صرف مختلفة مع هيركات جد قاسية على نحو يظهر وكأن هذه الودائع باتت بغالبيتها العظمى «ودائع مليلرة « اي بالاسم ودائع دولارية لكنها بالفعل ودائع مؤهلة للرد بالليرة اللبنانية، بتعبير آخر، ودائع بالدولار المحلي او اللولار وهي من بنات وتشويه مصرف لبنان. والمضحك المبكي ان البيان الاخير لحاكم مصرف لبنان تاريخ 21 آذار 2023 انتهى بالقول انه لحمايتها…؟

دور المصارف في خلق الدولار المحلي (اللولار)

الانحراف في ادارة مصرف لبنان لنظام الدولرة في البلاد يظهر ايضاً في مجال آخر هو خلق المصارف ايضا لدولار محلي او اللولار بصورة مختلفة ومتمايزة وفقاً للايضاح التالي:

يقوم (A) بايداع مصرفه مبلغ 10000 دولار نقدي، فيستبقي الاخير نسبة معينة منه في صناديقه او لدى مصرف لبنان ويقرض المتبقي ولنفترض قيمته 8000 دولار الى (B).

يقوم (B) بايداع مصرفه الشيك بقيمة القرض الذي حصل عليه من مصرف (A) وهو 8000 دولار، فيستبقي الاخير نسبة معينة منه في صناديقه ولدى مصرف لبنان ويقرض المتبقي ولنفترض قيمته 6000 دولار الى (C)

وهكذا دواليك……. ما يعني ان الـ 10000 دولار النقدية الاولى بامكانها ان تخلق بالتداول وبشكل مشتق كتلة من الودائع الدولارية المشتقة depots ou monnaies scripturales derivees تقدر قيمتها حسب سرعة هذا التداول ما بين الستة والثمانية اضعاف الوديعة النقدية الدولارية الاولى. فاذا حصل ان سحب المودع الاول (A) وديعته الدولارية النقدية فان ذلك لا يؤثرعلى بقاء كتلة دولارية مشتقة في الاسواق اضعاف الوديعة النقدية المستردة، واستمرار التوالد المذكور يضخم بالنتيجة الكتلة النقدية الدولارية محاسبياً دون ان تقابلها كتلة نقدية دولارية فعلية.

وقد خفف مصرف لبنان من وطأة التوالد المذكور بفرض توظيفات الزامية بالدولار على المصارف لديه بفوائد مجزية من خارج اطار القانون الذي يتحدث فقط عن احتياطات الزامية وبدون فائدة.

في الأدبيات النقدية العالمية

تاريخياً يعتبر البروفسور Maurice Allais الحائز على جائزة Nobel في الاقتصاد لعام 1988من المبادرين الذين بحثوا بعمق موضوع الودائع والنقود المشتقة وسبل معالجة تشوهاتها، وكانت له اقتراحات متعددة لتنظيمها ولتجنب مخاطرها منها: ضرورة تكوين المصرف المعني مقابلاً لكل وديعة مشتقة اما لدى المصرف المركزي او لدى مصرف مراسل او بتخصيص مقابل لها من نتائج عملية مدرة للنقد الاجنبي

ايضا كانت هناك فكرة جد راديكالية تقضي بان يحصر بالمصرف المركزي صلاحية خلق النقد كلياً سواء أكان نقداً قانونياً monnaie fiduciaire او نقداً مصرفياً اي نقداً مشتقاً monnaie scripturale وهذه الفكرة وردت من ضمن مجموعة افكار نقدية واقتصادية اصلاحية كان قد سبق وطرحها اقتصاديان معروفان في عام 1930 هما Irving Fisher و Henry Simons من ضمن ما عرف بتاريخه بمخطط شيكاغو Plan Chicago، وقد اعيد التذكير بها وغيرها في اقتراحات تشريعية عرضت في استفتاء شعبي حصل في سويسرا وعرف باستفتاء Vollgeld ومشروع قانون قدمته الحكومة الايسلندية وعرف بمبادرة Sigurjonsson والاثنان يرميان الى اعتماد ما يسمى بالعملة الواحدة monnaie unique او monnaie pleine.

الحجة القانونية التي تم الاستناد اليها في المشروعين السويسري والايسلندي هي ان النقد امر سيادي وخلقه يجب ان يتم من قبل مصرف مركزي وطني يمنح له امتياز اصداره بموجب الدستور او القانون حسب ظروف كل بلد. و كان هناك رأي يقول ان مضمون الامتياز يمكن ان يتعدى حدود خلق النقد القانوني ليطال تنظيم وضبط عملية خلق النقد المشتق المتفرع عن النقد القانوني الوطني والذي تخلقه المصارف على النحو السابق ايضاحه وهو ما يشار اليه ايضا بالتعبير الدارج الدولار المحلي او اللولار. بعكس حالة الدولار اذ لا يملك المصرف المركزي الوطني اي صلاحية في خلق الدولار المشتق من وديعة دولارية او اي عملة اجنبية اخرى على اعتبار ان السيولة الدولارية لا تدخل عادة ضمن وفي قياس السيولة بالعملة الوطنية التي يعتد بها لتحديد مستوى الاسعار حسب المعادلة المعروفة M*V=P*Q.

الخلاصة: إخفاق كارثي في إدارة نظام الدولرة

واضح مما سبق عرضه ان نظام الدولرة الذي اعتمد في لبنان حصل من دون الانتباه الى ضرورة تدعيمه بسبل حمايته خلال الازمات وأهمها ضرورة تكوين احتياطي كاف بالدولار لمجابهة هذه الاخيرة. فالذي حصل كان للاسف العكس وهو تكوين خسارات دولارية فادحة منذ عقد من الزمن بسبب تبديد الموارد الدولارية التي حصل عليها مصرف لبنان وهي بمعظمها من اموال المودعين للدفاع عن سعر صرف زائف وتمويل انفاقات ودعم قطاع عام فاسد. وقد تم اخفاء الخسارات بمهنية عالية في قيود محاسبية الى ان كشفتها للعلن الكارثة التي حلت باللبنانيين والتي لا يقع الباحث لمثيل لها في المؤلفات التي تؤرخ للكوارث النقدية والمصرفية والمالية في العالم، لتشعب ابعادها بين النقد والمصارف والمال والاقتصاد وتظهرها بتعثرات اصابت الدولة ومصرفها المركزي والمصارف واصحاب الودائع والشريحة العظمى من المواطنين.

وادى عدم تنظيم خلق المصارف للودائع الدولارية المشتقة الى مظالم عدة ومتنوعة آخر تجلياتها تمكين اصحاب الودائع الاخيرة من النافذين من تهريب ودائع دولارية حقيقية لصالحهم تعود لمودعين آخرين باتوا بنظر مصرف لبنان اصحاب ودائع بالدولار المحلي ويعاملون على هذا الاساس في ظلم لا مثيل له. والانكى ان كلاماً رسمياً يصدر من وقت لآخر بان العمل هو للحفاظ على حقوق هؤلاء الاخيرين ومصالحهم كاصحاب ودائع دولارية محلية وآخره بيان 21 اذار 2023 ؟؟؟؟. موضوع جد حيوي غاب للاسف التطرق الى ضرورة معالجته ورفع الظلم الواقع على المعنيين به في جميع المشاريع المقدمة. والبداية تكون بوضع آلية تفرز اصحاب الودائع التي تكونت ايداعاتهم بدولارات حقيقية عن جميع المودعين الآخرين ليتم البناء على مقتضاه بدلا من التقسيم بين اصحاب ودائع مؤهلة وغير مؤهلة وغيرها من التقسيمات.

جميع الاشكالات المحكي عنها سابقاً وغيرها سببها او ساعد عليها استمرار العمل بنصوص وردت في قانون النقد والتسليف وضعت اصلاً للتعامل مع نظام سعر صرف ثابت كان سائداً عند وضع مشروع القانون الاخير في الستينات. ولم يحصل تعديل لها لجعلها تتوافق مع متطلبات نظام سعر الصرف العائم المعتمد منذ بداية السبعينات لانشغال لبنان في السبعينات والثمانينات الماضية بالتقاتل والقتال، ولاحقاً منذ التسعينات بعملية اعادة الاعمار وسبل تمويلها ولاحقا للحفاظ والدفاع على سعر صرف ثابت تم اعتماده.

ان المطلوب وباسرع وقت اجراء نفضة قانونية شاملة وعميقة بقيادة قانونيين واقتصاديين متنورين مستقلين اصحاب مصداقية وخبرة عميقة في عمل المصارف المركزية المعاصرة، تحدد ليس فقط آلية تعامل مصرف لبنان مع اي نظام سعر صرف يتم اعتماده، بل ايضاً اطار ادارة وعمل المصرف.

والمهم الاستفادة من عبر الكارثة بتحديد استقلالية مصرف لبنان بشكل واضح على انها استقلالية عملانية operationelle كما يقول الانكليز، واستقلالية مع «avec» وليس عن «de» كما هي معتمدة من قبل الالمان والسويسريين. كما يجب ان يكون هناك من يراقب اعمال مصرف لبنان بشكل مستقل داخلياً وخارجياً وايضاً من يجري تقييماً دورياً لنتائج سياسات وقرارات المصرف لصالح الحكومة والمجلس النيابي والجمهور وان لا تنشر التقارير السنوية وتقارير عمليات المصرف قبل مناقشتها في اللجان النيابية المختصة. المهم عدم ترك المسألة النقدية مستقبلاً لمطلق ارادة القيمين على المصرف من دون اي متابعة كما حصل في العقود الثلاثة الماضية وذلك عملاً بتوصية الاقتصادي الاميركي الشهير Milton friedman حامل جائزة Nobel لعام 1976 ومضمونها ان المسألة النقدية هي على درجة من الاهمية والخطورة لكي لا تترك لتقدير القيمين على المصرف المركزي فقط.

La monnaie est une chose trop importante

pour qu’on la laisse aux banquiers centraux.