مصرف لبنان فاقد لأدوات السياسة النقدية

خلال السنة والنصف الماضية، فقد مصرف لبنان قدرته على التدخّل في السوق، سواء للحفاظ على السعر الثابت للدولار، أو لتأمين متطلّبات الخزينة بالعملات الأجنبية، أو لكبح التضخّم… يمكن اعتباره عاجزاً غصباً عنه أو بإرادته. فهو رسم مساراً خاصاً به لتغطية أزمة النظام المصرفي حصراً، على حساب مداخيل الناس ومدخراتهم، وانكماش الاقتصاد بمستويات غير مسبوقة. ضمن هذا الهدف أفرط في استعمال الأدوات المتاحة له، أو استعملها بشكل غير ملائم حتى باتت غير فاعلة، أو تغاضى عن استعمال أدوات أخرى لا تخدم الأهداف التي حدّدها لنفسه بعيداً عن أي توجهات حكومية أو رسمية.

المصرف المركزي، هو مصرف المصارف. هو الجهة التنظيمية. بحسب قانون النقد والتسليف هو مسؤول عن استقرار الاقتصاد والليرة والقطاع المصرفي. عمله يتطلب أحياناً تمويل المصارف، أو سحب السيولة من السوق، أو طباعة المزيد من النقود. كل ذلك وغيره، يجب أن يتم ضمن أهداف واضحة ومحدّدة مرتبطة بمستويات التضخّم والتوظيف. في الواقع، لم يكن مصرف لبنان يمارس هذه الوظائف. حصر عمله في الحفاظ على تدفّق الدولارات من الخارج وتحويلها إلى موجودات محلية. بنية هذا النظام مرسومة على أساس السطو على ودائع الناس.

وهو لم يكن يمارس أيّاً من الوظائف المحدّدة له في الإطار العام، بل في الإطار الخاص الذي يراه مناسباً لتأمين استمرارية النظام (النموذج الاقتصادي). باختصار، هو فشل في قيامه بهذا الدور. فمن بعد سنوات من النجاح المزعوم، تبيّن أن أصل الأزمة في النظام نفسه الذي كان يحميه سلامة وآخرون في السلطة. نظام تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار انهار بالكامل. لم يتمكّن من لجم معدّلات التضخّم التي حلّقت نحو 90% في السنة الماضية. أما فشله الأكبر فهو تدمير الاقتصاد من أجل حماية النظام المصرفي. لا فرص عمل مستهدفة، بل ركود خانق وتزايد في معدلات البطالة.

العمل الطبيعي للمصارف هو إقرض الزبائن أموالاً من خلال السيولة المتاحة لديها. لكن المصرف المركزي لديه طلب واحد في المقابل: الاحتفاظ بقدر معين من الودائع في متناول اليد لتغطية عمليات السحب المحتملة. يسمى هذا المبلغ «الاحتياط الإلزامي»، أي الكمية النقدية التي على المصارف الامتناع عن إقراضها وإيداعها لدى المصرف المركزي. عندما يرفع هذا الأخير، نسب الاحتياط الإلزامي، فهو يعبّر عن سياسة نقدية انكماشيّة في إطار الأهداف التي يرسمها، أي أنه يسعى إلى خفض العرض النقدي من خلال تجميد كميّة أكبر من الأموال كاحتياطات إلزامية. أما إذا خفّض نسب الاحتياطات، فإن ذلك يُعتبر جزءاً من سياسة توسعيّة، أي سياسة تهدف إلى رفع النقد المتداول في السوق من خلال إتاحة أموال أكثر للإقراض.

سعر الإقراض للبنك المركزي، أو سعر الحسم (discount rate)، هو أداة متاحة لاستعمالها من قبل المصارف المركزية. هذا السعر، هو معدّل الفائدة التي يطلبها المصرف المركزي لإقراض المصارف التجارية، وهو أعلى من معدّل فائدة الإقراض بين المصارف نفسها. أهميّة هذا المعدّل، أنه يؤثّر على معدلات الفائدة السوقية.

عملياً، لم يعُد لدى مصرف لبنان أدوات كثيرة متاحة للاستعمال. أصبح هامش الحركة ضيقاً أمامه. فهو منذ بداية الأزمة استخدم «عمليات السوق المفتوحة» بشكل مفرط، بعدما اختار مواجهة الأزمة عبر طباعة أكثر من 30 ألف مليار ليرة خلال بضعة أشهر. كانت هذه الأداة هي طريقه الوحيد لضخّ هذا المبلغ في السوق وإن لم تتم بالطرق التقليدية (مثل شراء سندات الخزينة من المصارف). لكن النتيجة كانت واحدة: تضخّم كتلة العرض النقدي في التداول. هذه الأداة لم تعُد ذات فعاليّة الآن. فحتى لو قرّر تقليص الكتلة النقدية، أي عكس الاتجاه الذي سلكه منذ بداية الأزمة، فالمصارف التي أصبحت بمثابة مصارف «زومبي» غير قادرة على لملمة الأموال من السوق، فضلاً عن أنها مضطرة لأن تدفع للمودعين أموالهم بالليرة.

أما أداة «معدل فائدة الإقراض»، فقد استعملها في بداية الأزمة عندما خفّض معدلات الفائدة على ودائع الليرة والدولار، لكن هذا الأمر لم يجدِ نفعاً إذ أن انخفاض معدلات الفائدة لم ينعكس زيادةً في القروض لتحريك الاقتصاد، لأن المصارف لم تكن قادرة على الإقراض أصلاً.

ولم يلجأ مصرف لبنان إلى «تعديل نسب الاحتياط الإلزامي» رغم أنه أمر قد يصبّ في مصلحة الاقتصاد على المدى الطويل. إن بقاء الاحتياط الإلزامي كما هو، يضمن على الأقل عدم تبديده من قبل المصارف اللبنانية أو تحويله إلى الخارج بشكل استنسابي. وقد يكون لهذه الأداة دور مهم في مرحلة قادمة إذا تم الاتفاق على خطّة اقتصادية شاملة.