مصرف لبنان يلجم تدخّله في سوق القطع: قرار سياسي؟

حسب الميزانيّات النصف الشهريّة التي ينشرها المصرف المركزي، شهد النصف الأوّل من شهر شباط استنزافاً في احتياطات المصرف بالعملات الأجنبيّة بقيمة لم تتجاوز حدود 91.5 مليون دولار، مقارنةً بأكثر من 394 مليون دولار خلال النصف الثاني من شهر كانون الثاني، أي خلال 15 يومًا التي تلت بدء تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع. وبذلك، بدا من الواضح أن مصرف لبنان قرّر منذ بداية شهر شباط تحجيم كميّة الدولارات التي يقوم بالتضحية بها من احتياطه، للتدخّل في سوق القطع وخفض سعر صرف الدولار مقابل الليرة. مع الإشارة إلى حجم الدولارات التي قرّر مصرف لبنان ضخّها من احتياطاته في النصف الأوّل من الشهر الحالي لم تتجاوز 23% من قيمة الدولارات التي تم ضخها من الاحتياطات، خلال النصف الثاني من الشهر السابق.

على أي حال، وبعد الانخفاض الأخير في قيمة الاحتياطات، بات مستوى الاحتياطات المتبقية في ميزانيّة المصرف المركزي لا يتجاوز حدود 12.22 مليار دولار، من ضمنها أموال حقوق السحب الخاصّة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي، وما تبقى من دولارات المودعين التي وظفتها المصارف لدى مصرف لبنان.

تراجع حجم تدخّل المصرف المركزي انعكس تلقائيًّا على حجم السيولة المتداولة في السوق بالليرة اللبنانيّة. فبعد أن تمكّن مصرف لبنان من تسجيل انخفاضات سريعة وقاسية في حجم هذه السيولة خلال الشهر الماضي، نتيجة قيام مصرف لبنان ببيع الدولار وامتصاص السيولة بالليرة، عاد حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة خارج مصرف لبنان للارتفاع في النصف الأوّل من شهر شباط. وبالأرقام، ارتفاع حجم هذه الكتلة بين الأوّل من الشهر الحالي ومنتصفه بنحو 172.6 مليار ليرة لبنانيّة، نتيجة خلق النقد بالليرة لتأمين السحوبات بالعملة المحليّة من الحسابات المدولرة، وإقراض الدولة من قبل مصرف لبنان.

ولهذا السبب بالتحديد، ومع عودة الارتفاع في حجم السيولة المتداولة بالعملة المحليّة، وانتهاء فترة الانخفاضات السريعة في حجم هذه السيولة، من المتوقّع أن يواجه مصرف لبنان بعض الضغوط على سعر صرف الليرة اللبنانيّة في السوق الموازية، ما قد يستدعي العودة لرفع كميّة الدولارات التي يقوم بضخها عبر المنصّة. مع الإشارة إلى أن أبرز أسباب الانخفاض السريع في سعر صرف الدولار في السوق الموازية خلال الفترة الماضية تمثّل في تجفيف السوق من “الكتلة الساخنة” من الليرات اللبنانيّة المتداولة، والتي كانت تمثّل أبرز أسباب ارتفاع الطلب على الدولار الأميركي.

في الوقت نفسه، ومع تراجع وتيرة ضخ الدولار في السوق، تراجعت قدرة مصرف لبنان على خفض الخسائر المتراكمة في بند “الموجودات الأخرى” في ميزانيّته. فخلال الشهر الماضي، تمكّن المصرف من خفض قيمة هذا البند الذي يمثّل خسائر غير معترف بها، من خلال تسجيل الأرباح الناتجة عن الفارق بين سعر بيع الدولار النقدي عبر المنصّة، وقيمته المسجّلة في الميزانيّات بسعر الصرف الرسمي. أما في النصف الأول من شباط، ومع تراجع حجم الدولارات التي قام المصرف ببيعها في السوق، عادت قيمة بند الموجودات الأخرى للارتفاع بنحو 1.44 مليار دولار.

طوال الأسابيع الماضية، تمكّن مصرف لبنان من تسجيل انخفاضات يوميّة متتالية وسريعة في سعر بيع الدولار عبر منصّته، نتيجة التدخّل السريع والقاسي الذي قام به. لكنّ عودة مصرف لبنان إلى التحفّظ في قيمة الدولارات التي يقوم بضخّها، أدى إلى تراوح سعر صرف المنصّة بين 20,400 و20,300 ليرة مقابل الدولار طوال الأسبوع الماضي، من دون أن تشهد المنصّة وتيرة الانخفاض نفسها في سعر بيع الدولار. مع العلم أن عدّة مصادر مصرفيّة أشارت إلى أن خفض سعر صرف المنصّة إلى ما دون 20,000 ليرة مقابل الدولار قد لا يتناسب مع خطط حكومة ميقاتي، كون ذلك سيعني خفض قيمة الرسوم والضرائب التي سيتم تحصيلها وفقًا لسعر المنصّة، بعد إقرار مشروع قانون الموازنة. وهو ما يدفع البعض إلى الاعتقاد بأن عدم الاستمرار بخفض سعر دولار المنصّة إلى ما دون 20 ألف قد يكون ناتجًا عن تدخلات سياسيّة.

في كل الحالات، من غير الواضح ما إذا كان لجم تدخّل المصرف المركزي قد نتج عن محدوديّة حجم الدولارات المخصصة من الاحتياطات لهذه العمليّة، أو إذا كان ذلك قد نتج عن إيعاز حكومي طلب عدم خفض سعر صرف الدولار إلى ما دون الـ20 ألف ليرة، لعدم خفض قيمة الضرائب التي ستحصّلها الخزينة. لكن في كل الحالات، من الواضح أن هذه التطورات قد تركت آثارها على ميزانيّات مصرف لبنان، عبر عودة حجم الخسائر المتراكمة والسيولة المتداولة بالليرة للارتفاع، وعلى سعر المنصّة نفسه، من خلال توقّف انخفاضاته المتتالية.