مكاتب التحويلات المالية تفك عقدة اللبنانيين مع البنوك

يسلط لجوء اللبنانيين إلى مكاتب التحويلات المالية بشكل متزايد لإتمام تعاملاتهم، بعد تخلي القطاع المصرفي عن تولي هذه المهمة، الضوء على مدى ازدهار هذا النشاط بفضل مرونة خدماته في ظل ظروف ضاغطة لم يعد معها للناس سوى الذهاب إلى هذا الخيار.

دخلت شركات الحوالات المالية إلى السوق اللبنانية بكل ثقلها بعدما أنهكت المصارف وقيودها المشددة المتعاملين منذ قرابة ثلاثة أعوام بسبب الوضع الاقتصادي القاسي الذي أنهك الناس بشكل غير مسبوق.

ولم يعد عمل هذه الشركات يقتصر على التحويلات من الخارج، بل باتت تقدم خدمات تتنوع بين بطاقات “الفيزا” وقائمة هدايا الزفاف، وحتى دفع الرواتب.

وأمام شركة أو.أم.تي، التابعة لشركة ويسترن يونيون العالمية للحوالات، ينتظر الرجل الخمسيني إلياس سكاف دوره ليتسلم مبلغا مالياً بالدولار الأميركي يرسله له أفراد عائلته في الخارج، وبات مصدر رزقه الأبرز.

وتقدر التحويلات المالية بالعملات الأجنبية التي يرسلها أكثر من 1.3 مليون مغترب إلى لبنان بنحو 12 مليار دولار سنويا، في حين أن الأرقام الرسمية تشير إلى أن تلك التحويلات تتراوح بين 7 و8 مليارات دولار سنويا.

ويقول سكاف لوكالة الصحافة الفرنسية إن شركات الحوالات المالية “تُسهل أمورنا، وتجري الأمور بسرعة. أما في المصرف، تموت مئة مرة قبل أن تُحصّل حوالة تصلك إلى حسابك”.

وحتى قبل الأزمة دأب المغتربون على تحويل الأموال لعائلاتهم عبر المؤسسات غير المصرفية، والبالغة نحو خمس شركات.

وعلى وقع الانهيار الاقتصادي المستمر منذ خريف 2019، فرضت البنوك المحلية منذ الأسابيع الأولى قيودا مشددة على عمليات السحب بالدولار ومنعت التحويلات إلى الخارج.

وجعل ذلك المودعين عاجزين عن التصرف بأموالهم خصوصا بالدولار، بينما فقدت الودائع بالليرة قيمتها بأكثر من 90 في المئة مع انهيار سعر العملة المحلية في السوق السوداء.

وعلى مدى أكثر من عامين ونصف العام شهدت قاعات الانتظار في معظم البنوك المحلية سجالات متكررة بين مواطنين غاضبين راغبين بالحصول على ودائعهم وموظفين ملتزمين بتعليمات إداراتهم.

وكان آخر هذه المواجهات خلال الشهر الماضي حين اقتحم شاب فرعا بنكيا وأخذ رهائن داخله، ليُحصل في النهاية جزءاً صغيراً فقط من أمواله المحتجزة منذ ثلاث سنوات.

وجراء انعدام الثقة تدريجيا بالقطاع المصرفي الذي شهد تسريح الآلاف من الموظفين وإقفال العشرات من الفروع وإلغاء العديد من الخدمات، ازدهرت مكاتب الحوالات المالية.

وبدلا من اللجوء إلى بنكه المعتاد لفتح حساب خاص بقائمة هدايا العروسين، اختار إيلي خدمات شركة ويش ماني “ليوفر بذلك على أصدقائه تعب زيارة المصرف”.

ويقول “بدلا من الانتظار لساعات وفروا وقتا ورسوما بعكس المصرف”، مضيفا “حتى أن أحدهم أرسل لي مبلغا ماليا عبر التطبيق مباشرة من دون أن يضطر إلى النزول إلى المصرف”.

واختار إيلي الشركة ببساطة كونها الشركة نفسها التي يقبض عبرها راتبه.

ومن الواضح أنه ليس الأفراد وحدهم من باتوا على “عداوة” مع البنوك فالكثير من أصحاب المتاجر اتجهوا إلى التعامل مع مكاتب التحويلات لإتمام معاملاتهم دون مشاكل.

ومن بين هذه الأمثلة، متجر لبيع الملابس الرياضية في بيروت والذي اختار التوقف عن دفع الرواتب عبر البنوك لتوفير الجهد والوقت والرسوم على موظفيه، مفضلا اللجوء إلى ويش ماني، التي لا تفرض رسوما على السحوبات بالليرة.

وتقول راشيل بونادر مسؤولة الموارد البشرية في المتجر “في بداية الأزمة، أجبرنا على دفع الرواتب نقداً، ما كان يستهلك الكثير من الوقت”.

وأضافت “الآن، بات باستطاعة الموظفين سحب معاشاتهم بسهولة، وعلى دفعات إن شاؤوا، ومن دون رسوم”.

وبالإضافة إلى القيود على العمليات المالية، رفعت البنوك أيضا قيمة رسومها على الخدمات، وبينها تلك المفروضة على الحوالات القادمة من الخارج.

ويقول سامي نادر مدير مركز المشرق للشؤون الإستراتيجية إن تلك الرسوم “باتت مصدر دخلها (البنوك) الوحيد”.

وخلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام، استلم نحو 250 ألف لبناني حوالات من الخارج عبر شركة أو.أم.تي التي تسيطر على ثمانين في المئة من سوق الحوالات المالية خارج القطاع المصرفي.

ويوضح عضو المجلس الإداري للشركة ناجي أبوزيد أن الحوالات المالية ارتفعت بنسبة 8 في المئة مقارنة مع الفترة ذاتها من العام الماضي. وقال “ينتشر في لبنان 1200 مكتب تابع لنا”.

ولا يقتصر الأمر فقط على الحوالات، إذ أن الشركة باتت تقدم خدمات أخرى، بينها بطاقات فيزا للسحوبات والدفع عبر الانترنت، وخدمة صرف الأموال، وقوائم هدايا الأعراس.

ويمكن للمشتركين في المواقع الإلكترونية التابعة لمحطات تلفزيونية دفع رسوم الاشتراك عبر أو.أم.تي بدلا من استخدام البطاقات المصرفية. كما من الممكن دفع ثمن تذاكر إحدى شركات الطيران.

ومع توسع سوق الحوالات، فتحت شركة تدعى “ريا” في العام 2020 مكاتبها في لبنان، مما أعطى الناس خيارات تنافسية بين مكاتب التحويلات.

وتقول مسؤولة في الشركة في لبنان، فضلت عدم الكشف عن اسمها، “تغيرت التوجهات بعد الأزمة، وباتت غالبية التحويلات تتم عبر شركات الحوالات المالية”.

وبحسب نادر فإن ازدهار تلك الشركات يعود بشكل أساسي إلى الأموال التي يرسلها المغتربون اللبنانيون إلى عائلاتهم.

ويقول “لا يتردد شاب لبناني في الاغتراب اليوم في إرسال وإن كان مئة دولار فقط لعائلته، فإنها كافية لإحداث فرق” في حياتهم اليومية.

وبلغت تحويلات المغتربين 6.6 مليار دولار في العام 2021، وفق إحصائيات البنك الدولي، ما جعل لبنان بين الدول الثلاث الأولى في الشرق الأوسط التي تعتمد على حوالات مواطنيها في الخارج.

وتظهر الأرقام أن نسبة تلك الحوالات بلغت حوالي 53.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

وبانتظار تسلم حوالة من الخارج من مكتب أو.أم.تي في بيروت، يقول علاء شيخاني “لا يُمكننا أن نسحب ليرة واحدة من حساباتنا في المصرف”.

ويتساءل بانفعال، كونه لديه أموال عالقة في أحد المصارف منذ بدء الأزمة “كيف نثق بها مجدداً لنتسلم عبرها أموالنا؟”.

وباعتبارها واحدة من أكثر البلدان غير المتكافئة في ظل الفساد والمحاصصة الحزبية والطائفية وغياب دور الدولة في التنمية تم دفع الآلاف من اللبنانيين إلى براثن الفقر.

ويقول البنك الدولي إن نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر ارتفعت بواقع 28 نقطة مئوية بنهاية العام الماضي، بعد زيادة قدرها 13 نقطة مئوية في 2020.