هدوء الحدود البحرية وسط الحرب: ما مصير الترسيم والتنقيب؟

سارعَ لبنان في العام 2022 إلى توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع العدوّ الاسرائيلي معتمِداً الخط 23 بدل الخط 29. أملَ ساسة لبنان بالاستفادة من نتائج الترسيم عبر التنقيب عن الغاز في حقل قانا، وبرَّروا التنازل عن مساحات تحتوي ثروات من الغاز والنفط والأسماك، تقدَّر عائداتها بمئات مليارات الدولارات، بتدوير الزوايا، لقاء الحصول على غطاء دولي للبدء باستخراج الغاز وتحسين الأحوال الاقتصادية والخروج من الأزمة والعجز. لكن هل نجح لبنان في مسعاه؟ وأين أصبح الترسيم والتنقيب عن الغاز في ظل الحرب الإسرائيلية على لبنان؟

لا تهديد لحقل كاريش
منذ تنازل السلطة السياسية عن حقّ لبنان بالمساحة الأكبر من حقل كاريش، والواقعة شمال الخط 29، أُقفِلَ ملفّ الترسيم وخَفَتَ صوت شركة توتال التي تترأس عملية التنقيب عن الغاز في البلوك رقم 9. وسهَّلَت الحرب الإسرائيلية التي انطلقت على قطاع غزّة وجنوب لبنان في تشرين الأول 2023، إحالة ملفّ التنقيب إلى المجهول، بعد ذريعة الاصطدام بصخرة ولاحقاً ذريعة أخرى وهي وجود الماء بدل الغاز.

استَعَرَت الحرب على قطاع غزة وبات بحكم المباد بشراً وحجراً، وجنوب لبنان يشهد عمليات تدمير واسعة واغتيالات “بالجُملة” لقيادات وأفراد حزب الله، ومع ذلك، لا تهديدَ لحقل كاريش وما يمثّله من أمن اقتصادي للعدوّ. مع أن حزب الله أطلَقَ 3 مسيّرات في تمّوز 2022 قَبَيلَ الاتفاق على الترسيم البحري، وصوَّرَ ذلك على أنه ضغط على إسرائيل للقبول بترسيم الحدود وبدء لبنان باستغلال ثرواته من الغاز، إلاّ أن أيّاً من المسيّرات لم تغادر الأراضي اللبنانية باتجاه كاريش رغم أن ظرف الحرب مناسب لتهديد المصالح الاقتصادية الإسرائيلية، على شاكلة ما اعتُبِرَ تهديداً لفرض الترسيم. وإلى جانب التهديد العسكري، لم تبادر وزارة الطاقة أو الحكومة أو أحزاب السلطة التي وافقت على الترسيم بشروطه المجحفة خلافاً للقوانين المحلية والدولية، إلى فتح ملف التنقيب مع شركة توتال، ومساءَلتها حول حقيقة ما يختزنه حقل قانا، وبالتالي تشكيل تهديد قانوني وسياسي واقتصادي لصالح لبنان.
لم يستغرب الأستاذ الجامعي والنقابي عصام خليفة، صمتَ المسؤولين اللبنانيين عن التنازل عن الحدود البحرية الصحيحة، وعن حقيقة ما وجدته توتال في عمليّتيّ التنقيب الأولى والثانية، وعن ترك إسرائيل تستفيد من عائدات حقل كاريش الذي يفترض أن يكون للبنان بجزئه الأكبر. واعتبر خليفة في حديث لـ”المدن”، أن “توتال ما زالت تستهزء بلبنان، وهي لم تحفر بصورة صحيحة”.

أما عن تداعيات الحرب على الترسيم والتنقيب، فرأى خليفة أن على السلطة السياسية “إعادة النظر بهذا الاتفاق وكذلك بالاتفاق حول الحدود البحرية بين لبنان وقبرص، والتي تتضمّن أيضاً تنازلاً كبيراً عن مساحات واسعة من المياه اللبنانية وما تختزنه من ثروات”. وفي السياق، يشير خليفة إلى أنه “على وزير الطاقة (وليد فيّاض) تقديم الإحداثيات النقطة الثلاثية اللبنانية – القبرصية – الإسرائيلية التي على أساسها تم تحديد خريطة الحفر في لبنان”. ويؤكّد خليفة أن “لا خريطة حتى الآن”.

استقرار إسرائيل وحماية اقتصادها
المراوغة في إتمام عملية التنقيب والوصول إلى استخراج الغاز من الحقول اللبنانية، سيّما الحقلين رقم 4 و9، وأيضاً تساهل السلطة اللبنانية تجاه مماطلة شركة توتال، يشي بأن ما يحصل ليس مفاجئاً للسلطة السياسية. ويؤكّد خليفة أن ما حصل من الترسيم إلى عدم التنقيب، هو أمر متّفق عليه. ولا يستبعد أن “يكون هناك اتفاق بين إسرائيل وإيران حول قضية الترسيم، وانصاعَ له ساسة لبنان”. ويدعم خليفة تقديراته حول ذلك الاتفاق غير المُعلَن، بفعل “عدم وجود أي استهداف أو تهديد لكاريش، والمقابل، هو بقاء السلطة السياسية اللبنانية في مراكزها”.

وتلتقي تقديرات خليفة مع ما أعلنه زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد، اليوم الخميس، بقوله أن “الاتفاق التاريخي بين لبنان وإسرائيل سيعزز أمن إسرائيل، ويضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد الإسرائيلي ويضمن استقرار حدودنا الشمالية”. وتساءَل خليفة عمّا كسبه لبنان باتفاق الترسيم البحري، مقابل ما كسبته إسرائيل “التي تستفيد من غاز كاريش منذ العام 2020، أي قبل اتفاق الترسيم”.

ويلفت خليفة النظر إلى أن “تصريحاً كهذا يدلّ على اتفاق ما حصل سابقاً ويضمن استقرار ومصالح إسرائيل، ومن ضمنها عدم استهداف المنشآت النفطية”. وينطلق خليفة من تصريح لابيد ليطالب القضاء اللبناني بفتح ملف الترسيم، بدءاً من “تحريك القضاة الشجعان للدعوى القضائية بتهمة الخيانة العظمة، والمرفوعة ضد كلّ مَن تواطأ وتنازل عن الحدود اللبنانية، وهي دعوى مجمَّدة في ادراج القضاء”.

ولمزيد من الطمأنينة، يؤكّد لابيد أن الحرب ستبقى بعيدة من المنشآت النفطية. إذ يقول بأن “اتفاقية الغاز مع لبنان لا علاقة لها بأي حال بما يحدث الآن من تصعيد في الشمال الإسرائيلي مع حزب الله”.

الحدود البرية مشتعلة وسط هدوء الحدود البحرية. ولا يعوِّل خليفة على هذا الهدوء البحري في استفادة مستقبلية من ثروة الغاز أو النفط. فالتدمير الممنهج لقطاع النفط لم يبدأ من التفريط بالثروة الكامنة تحت البحر، بل أيضاً في إهمال منشآت النفط في الزهراني وطرابلس التي كانت تصدِّر النفط الآتي من العراق نحو فرنسا، بحسب خليفة، الذي يذكِّر أيضاً بقضية الفيول المغشوش والاتفاق الفضيحة مع شركة سوناتراك. ويخلص إلى أن “لبنان يتعرّض للحصار، وجزء منه داخلي يتمثّل بفساد السياسيين اللبنانيين”. وعليه “لم نحصل على ثروتنا في البحر، والتي يفترض أن تكون رافعتنا الاقتصادية”، وعلى عكس ذلك “تم تأمين مصالح إسرائيل”.