لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ البلاد. وقد اقتُلع أكثر من 1.3 مليون شخص من ديارهم، وهو ما أدّى إلى تعطيل سبل العيش، والبنية التحتية المرهقة، وتفاقم مشاكل النسيج الاجتماعي والاقتصادي الهشّ أصلاً في لبنان. واستناداً إلى رؤى مستقاة من التقرير المؤقّت لتقويم الأضرار والخسائر الصادر عن البنك الدولي (تشرين الثاني 2024)، تسلّط هذه الورقة الضوء على نطاق النزوح الداخلي وتأثيره وآثاره الأوسع نطاقاً. كما أنّه يسلّط الضوء على حقيقة مقلقة: عدم استعداد الحكومة اللبنانية للتعامل مع هذه الأزمة بكرامة، على الرغم من المواجهة بين الحزب وإسرائيل التي بدأت في 8 تشرين الأوّل 2023. يعكس الفشل في توقّع التداعيات الإنسانية والتخفيف من حدّتها قضايا منهجية أعمق داخل آليّات الحوكمة والاستجابة للأزمات في لبنان.
حتى تشرين الثاني 2024، نزح أكثر من 875,000 لبناني داخلياً، بينما غادر 440,000 شخص إضافي إلى سوريا المجاورة. وقد أعادت هذه الهجرة الجماعية، التي تركّزت أساساً في جنوب لبنان، تشكيل المشهد الديمغرافي والاقتصادي للبلاد. أصبحت المراكز الحضرية مثل بيروت، إلى جانب المناطق في الشمال وغيرها، الوجهات الرئيسية للسكّان النازحين. وهو ما يضع ضغوطاً هائلة على المجتمعات المضيفة المثقلة بالأعباء بالفعل.
ولم يؤدِّ النزوح من المناطق الزراعية الريفية، ولا سيما في سهل البقاع والمناطق الجنوبية، إلى اقتلاع الأسر فحسب، بل أدّى أيضاً إلى تعطيل الأنشطة الاقتصادية الحيوية. ويواجه العديد من النازحين، بمن فيهم المزارعون وأصحاب الأعمال الصغيرة، مستقبلاً غامضاً، مع وسائل محدودة لإعادة بناء حياتهم.
المخاطر الصّحّيّة ونقاط الضّعف
كشفت أزمة النزوح مدى عدم جاهزية الدولة والبنية التحتية في لبنان للتعامل مع حالات طوارئ بهذا الحجم. وتكافح الأنظمة العامّة، التي أضعفتها بالفعل سنوات من سوء الإدارة الاقتصادية والتقشّف، لتلبية احتياجات السكّان النازحين. وتعاني الصحّة والتعليم والخدمات البلدية الأساسية من ضغوط شديدة.
فما هي المخاطر الصحّية ونقاط الضعف؟
خلق الاكتظاظ في الملاجئ أرضاً خصبة لأزمات الصحّة العامّة. فالأمراض المعدية آخذة في الازدياد، ولا تزال فرص الحصول على الرعاية الطبّية غير كافية على الإطلاق. والنساء والأطفال هم الضعفاء بوجه خاصّ. وهم يشكّلون نسبة كبيرة من النازحين. كما أنّ هناك أكثر من 11,600 امرأة حامل في حاجة ماسّة إلى الرعاية الصحّية الخاصّة بالحوامل. في حين يواجه الأطفال زيادة التعرّض للأمراض بسبب انخفاض معدّلات التطعيم وسوء الصرف الصحّي في مراكز الإيواء.
وقد تضرّرت المراكز الصحّية والمستشفيات في المناطق المُستهدَفة، أو أصبحت غير صالحة للعمل. وهو ما زاد من تفاقم الأزمة. ومع محدودية المساعدات الدولية وانخفاض القدرة على تلبية الاحتياجات الفورية، يواجه لبنان خطر حدوث حالة طوارئ صحّية عامّة واسعة النطاق.
نصف مليون طالب بلا تعليم
عطّلت الأزمة تعليم ما يقرب من نصف مليون طالب. تمّ تحويل المدارس العامّة في عدد كبير من المناطق إلى مراكز إيواء مؤقّتة للعائلات النازحة، فتأخّر بدء العام الدراسي. وتشهد المدارس الخاصّة أيضاً انخفاضاً في معدّلات الالتحاق بالمدارس لهذا العام لأنّ الأسر النازحة لا تستطيع تحمّل الرسوم الدراسية. ويشكّل فقدان استمرارية التعليم مخاطر طويلة الأجل على تنمية رأس المال البشري في بلد يعاني بالفعل من انخفاض معدّلات الإلمام بالقراءة والكتابة ونتائج التعلّم.
كانت لأزمة النزوح تداعيات اقتصادية شديدة. إذ فقد ما يقرب من 160 ألف شخص وظائفهم بسبب تدمير المؤسّسات والأعمال التجارية والتخلّي عن الأنشطة الزراعية. وقد أدّى ذلك إلى خسارة سنوية تقدّر بنحو 168 مليون دولار في الأرباح، وفق تقرير البنك الدولي، فزاد تآكل القاعدة الاقتصادية للبنان.
لقد تضرّر القطاع الزراعي، الذي يشكّل العمود الفقري للاقتصادات الريفية، بشكل خاصّ. واضطرّ المزارعون إلى التخلّي عن الحقول، ففُقدت المحاصيل وانخفضت الإمدادات الغذائية، ودُمّرت الماشية والمحاصيل، فحُرمت الأسر من الدخل وارتفعت أسعار الموادّ الغذائية. وتمتدّ هذه الاضطرابات الاقتصادية عبر الاقتصاد الأوسع مساهمةً في التضخّم وتعميق الفقر.
الآثار الاجتماعيّة والسّياسيّة
إنّ أزمة النزوح هذه ليست قضية إنسانية واقتصادية وحسب، بل لها أيضاً آثار اجتماعية وسياسية عميقة. فقد أدّى التدفّق المفاجئ لعدد كبير من السكّان إلى المجتمعات المضيفة إلى توتّر التماسك الاجتماعي، فزادت التوتّرات الموجودة من قبل ولاح شبح الصراعات المحلية. وتسلّط هذه الديناميكية الضوء على الحكم الهشّ ومركزية صنع القرار في لبنان، الأمر الذي جعل البلديات غير مجهّزة لإدارة الأزمة.
تواجه السلطات المحلّية، المحرومة من الاستقلالية والتمويل الكافي، نقصاً حادّاً في الموارد الأساسية مثل الغذاء والمأوى والمساعدات الطبّية. خلقت هذه المركزية اختناقات أجبرت البلديات على الاعتماد على المنظّمات غير الحكومية الدولية والشبكات غير الرسمية. وهي حلول غير مستدامة تعمّق الفوارق المجتمعية. ونتيجة لذلك، تشعر الأسر النازحة بأنّها متروكة وتتآكل الثقة بالمؤسّسات العامّة.
اتّسمت استجابة الحكومة المركزية اللبنانية للأزمة بشيء من الضعف، عاكسة سنوات من سوء الإدارة الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، وعدم كفاية شبكة الأمان الاجتماعي. وعلى الرغم من تقديم بعض المساعدات الدولية، لا تزال غير كافية لمعالجة النطاق الواسع لأزمة النزوح.
لذا تمكين الحكومات المحلّية من خلال اللامركزية الهادفة، إلى جانب الدعم الدولي القويّ، أمر ضروري للتخفيف من الخسائر الإنسانية واستعادة ثقة الجمهور. وبدون هذه الإصلاحات الضرورية، يواجه لبنان خطر المزيد من زعزعة الاستقرار والمعاناة المطوّلة لسكّانه النازحين.
تتطلّب أزمة النزوح في لبنان استجابة منسّقة ومتعدّدة الأوجه تعالج الاحتياجات الفورية والتحدّيات الطويلة الأجل على حدّ سواء. تشمل الخطوات الرئيسية ما يلي:
– الإغاثة في حالات الطوارئ والمساعدات الإنسانية: يجب على المجتمع الدولي زيادة دعمه المالي واللوجستي لتوفير المأوى والغذاء والرعاية الطبّية للسكّان النازحين. وينبغي إعطاء الأولوية للتدخّلات الصحّية المستهدفة، بما في ذلك حملات التطعيم والرعاية الصحّية للأمّهات والحوامل.
– تعزيز البنية التحتية: يعدّ الاستثمار في البنية التحتية المحلّية، بما في ذلك المدارس والمراكز الصحّية والمرافق الأساسية، ضرورياً لدعم المجتمعات المضيفة والسكّان النازحين.
برامج الانتعاش الاقتصاديّ: يمكن للبرامج المستهدفة لإحياء الأنشطة الزراعية والتجارية الصغيرة في المناطق المتضرّرة أن تساعد النازحين على استعادة سبل عيشهم. ويمكن أن يؤدّي التمويل البالغ الصغر والمنح المقدّمة إلى منظّمي المشاريع المشرّدين دوراً محورياً في تعزيز الانتعاش.
– مبادرات التماسك الاجتماعي: يجب أن تشمل الجهود المبذولة للحدّ من التوتّرات بين السكّان النازحين والمجتمعات المضيفة برامج الحوار والتوزيع العادل للموارد لتقليل تصوّرات المحسوبية.
– إصلاحات الحوكمة على المدى الطويل: تؤكّد الأزمة المستمرّة في لبنان على الحاجة إلى إصلاحات الحوكمة لبناء مؤسّسات أكثر مرونة قادرة على الاستجابة لحالات الطوارئ في المستقبل.
إنّ أزمة النزوح في لبنان هي تذكير صارخ بالآثار المتتالية للنزاع على المجتمعات الضعيفة. وبعيداً عن المعاناة الإنسانية المباشرة، فإنّه يهدّد بتعميق الانهيار الاقتصادي في البلاد، وتفاقم الانقسامات الاجتماعية، وزيادة تآكل الحكم. ومن دون اتّخاذ إجراءات حاسمة من قادة لبنان والمجتمع الدولي على حدّ سواء، فإنّ أزمة النزوح تخاطر بأن تصبح كارثة إنسانية طويلة الأمد.
بالنسبة للبنان، هذه نقطة تحوّل. ستحدّد الخيارات التي سيتمّ اتّخاذها في الأسابيع والأشهر المقبلة ما إذا كان بإمكان السلطة الحاكمة رسم طريق نحو الانتعاش أو الانزلاق أكثر إلى الفوضى. ومن خلال تلبية احتياجات السكّان النازحين وإعادة بناء اقتصاد لبنان المحطّم، يمكنه أن يبدأ باستعادة الأمل لشعبه. ومع ذلك، سيتطلّب الأمر شجاعة لإعطاء الأولويّة للكرامة الإنسانية على الانقسامات والمكاسب السياسية والرؤية لبناء مجتمع أكثر شمولاً ومرونة.