رحّلت الأزمة الاقتصادية العاملات المنزليّات الأجنبيّات من لبنان. ورغم استمرار الحاجة إلى العمالة المنزلية إلا أنّ الطلب لا يقابله عرض من اليد العاملة المحلية. هذا يعني أننا نمرّ بـ«أزمة» عمالة منزلية، حتى لو بدا التوصيف مبالغاً فيه للوهلة الأولى، لكن بالنظر إلى التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لإقفال مكاتب الاستقدام، والتخلّي «عنوة» عن العاملة في المنزل، يصبح الوصف أقرب إلى الواقعية
نتيجة الانهيار الاقتصادي وتدهور قيمة العملة الوطنية، لم تعد غالبية العائلات اللبنانية قادرة على استقدام عاملات منزليّات وتسديد كلفة تُراوح بين الألفين والثلاثة آلاف دولار، ولا حتى الاستمرار في دفع مستحقات العاملة التي لا تقلّ عن مبلغ 200 دولار في الشهر، يتعدّى في كثير من الأحيان رواتبها. وبلغة الأرقام التي زوّدتنا بها دائرة المعلوماتية في وزارة العمل، تراجعت طلبات الاستقدام من ما يقارب الـ95 ألفاً عام 2018 إلى الـ27 ألفاً حتى منتصف العام الجاري (راجع/ي الجدول المرفق).
وتلفت المديرة العامة لوزارة العمل بالإنابة، ورئيسة دائرة مراقبة عمل الأجانب في الوزارة، مارلينا عطالله إلى أن هذه الأرقام لا تعكس بدقة عدد العاملات المنزليات الأجنبيات اللواتي دخلن لبنان «فالرقم أقل بكثير لأنّ المكاتب تتقدّم بطلب العاملة ذاتها أكثر من مرة نتيجة إصابتها بكورونا أو لمشاكل في تأشيرات الدخول، إضافة إلى أن الطلب قد يُقابل برفض من قبل العاملة أو من قبل وزارة العمل. عدا أنّ هناك مجموعة تأتي ثم تتخلّف عن العمل لعدة أسباب». ومما لا شك فيه أنّه في المقابل هناك عدد من العاملات اللواتي يعملن بشكل غير نظامي يصعب إحصاء عددهن، لذلك من الصعب تحديد حجم العمالة الأجنبية في الخدمة المنزلية في السوق اللبنانية. لكن بالنظر إلى تراجع عدد طلبات الاستقدام، والتراجع «الساحق» في عدد الإجازات التي أعطيت لعاملات لأول مرة، من 76570 في عام 2018 إلى 8720 حتى تاريخ 16 آب عام 2022، يمكن القول و«بضمير مرتاح» إن العاملات المنزليّات الأجنبيات غادرن لبنان ولم تبقَ إلا قلة قليلة.
مكاتب الاستقدام
أبعد من مغادرة عمالة أجنبية في الخدمة المنزليّة، تعرّض قطاع برمّـته لشلل «يتخبّط» العاملون فيه للشفاء منه. «فمن أصل 525 مكتباً لاستقدام العاملات المنزليات هناك 300 مكتب أو أقلّ تعمل، وبنسبة 20 إلى 30% من نشاطها مقارنة بالفترة التي سبقت الأزمة»، بحسب علي الأمين، عضو مجلس نقابة أصحاب مكاتب الاستقدام في لبنان، ورئيسها على مدار سنوات سابقاً.
بعد انتفاضة 17 تشرين عام 2019، وما تبعها من انهيار اقتصادي وانتشار جائحة كورونا، توقّفت المكاتب كلياً عن العمل، وأصيبت بعجز «ساحق» تراجع على إثرها دخلها إلى صفر طوال سنة ونصف سنة. هناك فئة لم تستطع النهوض من بعدها وأخرى فضّلت عدم «المخاطرة» في استقدام عاملات مقابل أكلاف عالية بالعملة الصعبة قد تكون نتيجتها وخيمة، كأن تقرّر العاملة العودة إلى بلدها، أو ببساطة أن تهرب. وهكذا خسر عشرات الموظفين عملهم، «حتى تلك التي قرّرت استئناف العمل اكتفت بموظف واحد أو اثنين»، بحسب الأمين.
مولا راجعة
بعد ست سنوات من الاستعانة بعاملة منزلية، فجأة، صارت كل المسؤوليات على عاتق عزّة التي تأسف لغياب مولا «الذي أحدث فوضى عارمة في المنزل واستنزفني». تزعجها تعليقات البعض أن اللبنانية «غنّوجة» فالأعمال المنزلية «ليست صعبة بقدر ما تقضم وقتي على حساب مهام أخرى أجدها أولوية مثل عملي وعائلتي». لم تعد عزّة تجد وقتاً للعب مع ابنها والحديث معه، ولا لممارسة الرياضة والاهتمام بصحتها النفسية، حتى الأعمال المنزلية لم تعد تُنجز على أكمل وجه. الفائدة الوحيدة كانت «الفرصة التي أتيحت لي للتعرّف إلى تفاصيل منزلي، والاستمتاع بترتيب خزانة ابني».
لم تستطع عزّة أن تتحمّل هذا الوضع أكثر من سنة وشهر. قريباً ستعود مولا نفسها، فكلّ العاملات الأجنبيات اللواتي استعانت بهنّ «عالساعة» (تدفع الأجر عن كلّ ساعة عمل) لم يتقبلهن ابنها وظلّ يسأل عن مولا. تقول: «صحيح أن مبلغ 2700 دولار لاستقدامها من جديد متعب، عدا تسديد 250 دولاراً شهرياً، لكنني سأؤمّن المبلغ ولو بطلوع الروح». تجربتها علّمتها أن «أتشارك مع مولا العمل لأبقى ملمّة بشؤون المنزل وحتى لا أعيش الصدمة ذاتها إذا تركتني ثانية».
الرجل لا يساعد