أسواق اليوروبوند متفائلة جدًا: اقتراب الحل المالي الشامل؟

في أسواق سندات اليوروبوند اللبنانيّة، أي سندات الدين العام المقوّمة بالعملات الأجنبيّة، ما ينبغي الالتفات إليه. فخلال الأسبوع الماضي وحده، قفزت قيمة السندات التي تستحق في تشرين الثاني 2026 من 19.52 سنتاً للدولار، إلى قرابة 21.9 سنتاً للدولار، ما عكس زيادة كبيرة نسبتها 12.23 بالمئة. أمّا الأهم، فهو أنّ أسعار هذه السندات باتت في أعلى مستوياتها، منذ تخلّف لبنان عن دفعها، ما يعطي دلالات مهمّة بخصوص توقّعات السوق للفترة المقبلة في لبنان. ومن المعلوم أنّ من يبيع ويشتري هذه السندات اليوم في الأسواق الدوليّة، ليس سوى كبار اللاعبين، من صناديق استثماريّة ومُضاربين. ولجميع هؤلاء، صلاتهم وخبرتهم في عالمي المال والسياسة، ولتحليلاتهم وقراراتهم مدلولات يجب الوقوف عندها.

ماذا تعني هذه الأرقام فعليًا؟ وكيف نفهم عبارة “سنت للدولار” التي تُستعمل لتقييم السندات؟ وعليه، كيف يمكن تحليل التحوّلات في قيمة هذه السندات، اقتصاديًا وسياسيًا؟ وهل ساد في السوق الاعتقاد بأنّ لحظة “الحل المالي الشامل” قد اقتربت بالفعل؟

كيف نفهم أسعار السندات؟

في البداية، ثمّة ضرورة لفهم طريقة تسعير سندات اليوروبوند في الأسواق. في العادة، تُصدر الحكومات هذا النوع من السندات حين تحتاج للاقتراض، وتبيعه للمستثمرين في الأسواق، بقيمة إسميّة معيّنة. تتعهّد الحكومة، مُصدرة السند، بدفع نسبة فائدة معيّنة لحامل السند، كما يمكن خلال هذه الفترة تداول السند، أي بيعه لمستثمرين آخرين في السوق. وعند الاستحقاق، تسترد الحكومة السند، وتسدّد دينها. أي تدفع لحامل السند القيمة الإسميّة التي استدانتها عند الإصدار.

لكن بين إصدار السند وبيعه من قبل الحكومة، ثم استرداده وتسديد قيمة الدين، فترة قد تصل لعقود من الزمن. وسعر السند في السوق، عند بيعه وشرائه بين المستثمرين، سيختلف عن قيمته الإسميّة الأصليّة (والتي سيتم تسديدها عند الاستحقاق، إذا لم تتعثّر الدولة). هنا بالتحديد، يظهر مفهوم القيمة السوقيّة للسند، أي قيمة تداوله في السوق، بانتظار استحقاقه.

كيف تتحدّد قيمة السند السوقيّة؟ وفق عوامل العرض والطلب طبعًا. لكن توازنات العرض والطلب تتحدّد بعوامل أخرى: الثقة بالدولة مُصدرة السندات، وظروفها السياسيّة والاقتصاديّة. كما تتحدّد بعوامل ذات طابع عالمي، فإذا ارتفعت الفوائد في الأسواق بشكلٍ عام، ارتفع المردود الذي يريده المستثمر مقابل حيازة السند، فتنخفض عندها قيمة السندات السوقيّة الحاليّة مقارنة بالقيمة الإسميّة التي ستُسدّد عند الاستحقاق.

حين تُقال عبارة “سنت للدولار”، فالمقصود وصف الفارق بين القيمة السوقيّة للسند، وقيمته الإسميّة. حين يقال أن قيمة السند ارتفعت إلى 21.9 سنتاً للدولار، مثلاً، فالمقصود أن قيمته السوقيّة بلغت 21.9 بالمئة من قيمته الإسميّة، التي يُفترض سدادها عند الاستحقاق (أو “كان يُفترض” سدادها عند الاستحقاق في حالة لبنان، وسنصل إلى النقطة الآن).

كيف تغيّرت أسعار اليوروبوند في لبنان؟

كما هو معروف، أعلنت الحكومة اللبنانيّة في آذار 2020 توقّفها عن سداد سندات اليوروبوند، كما أوقفت تسديد الفوائد التي ستستحق على هذه السندات. وما كان سيلي تلك اللحظة كان متوقّعًا. عاجلًا أم آجلًا، كان على المستثمرين انتظار أحد سيناريوهين: إمّا التفاوض مع الحكومة اللبنانيّة على إعادة هيكلة هذه السندات، أي الاتفاق على آجال وفوائد جديدة، مع اقتطاعات ستطال قيمة الدين الأصليّة، أو الدخول في معركة قضائيّة مع لبنان، في محاكم نيويورك، لاسترداد ما يمكن استرداده.

في الحالتين، كان ثمّة خسارة واقعة. وكان متوقعًا أن تهبط تدريجيًا القيمة السوقيّة للسندات، في البداية إلى ما دون 20 سنتًا للدولار، بعد التعثّر. ثم هبطت تدريجيًا لتصل إلى ما دون 6 سنتات للدولار، في الفصل الأوّل من العام 2024، بعدما طال أمد الأزمة الماليّة من دون تنفيذ أي خطّة تعافي مالي واضحة المعالم. وفي منتصف آب من العام الماضي، كانت سندات اليوروبوند لا تزال تُباع عند مستويات لا تزيد عن 6.25 سنتاً للدولار.

تداول السندات عند هذا المستوى، الشديد الانخفاض مقارنة بالقيمة الإسميّة، يُعد مسألة استثنائيّة في الأسواق العالميّة. لكنّه كان نتيجة طبيعيّة لدولة لا تُسدّد ديونها، ولا تملك النيّة لبدء التفاوض على هذه الديون، ولا يوجد الكثير من الأمل في تحصيل شيء ما من قيمة السندات في القريب العاجل. هكذا كان الوضع، حتّى صيف العام 2024.

متى بدأ تفاؤل الأسواق؟

كان ثمّة تحوّل لا يمكن تجاهله، ابتداءً من لحظة توسّع الحرب الإسرائيليّة على لبنان، في شهر أيلول 2024. تدريجيًا، ارتفعت أسعار السندات إلى حدود 7.8 سنتات للدولار في بدايات شهر تشرين الأوّل، ثم إلى مستويات ناهزت 9 سنتات للدولار في أواخر الشهر نفسه. وبحلول نهاية الحرب، كانت أسعار السندات -استحقاق تشرين الثاني 2026- قد لامس مستويات مرتفعة جدًا، تقارب 18.91 سنتاً للدولار.

كانت التقارير البحثيّة هنا تركّز على التحوّلات السياسيّة التي ترتقبها الأسواق: فالحرب ونتائجها، مهّدت لبروز مشهد سياسي جديد في لبنان، بما يتلاءم مع الأولويّات الغربيّة والعربيّة، وبما يجعل البلاد أكثر قربًا لتفاهم مع صندوق النقد الدولي. والدعم الغربي والعربي المرتقب، لهذه التحوّلات، سيسمح بتحريك الملفّات الاقتصاديّة العالقة، ومنها مسار التفاوض مع حملة السندات وإعادة هيكلة الدين العام. والبعض اعتبر أنّ التغيير المنتظر في المشهد السياسي المحلّي، سيزيل بعض العوائق التي منعت تنفيذ الإصلاحات سابقًا، وخصوصًا إذا تجاوز لبنان مرحلة الفراغ الرئاسي.

كانت هذه التوقّعات في مكانها. ففور انتهاء الحرب تم انتخاب الرئيس جوزاف عون، ثم تشكيل حكومة نوّاف سلام. وسارت قاطرة المحادثات مع صندوق النقد من جديد، ثم بدأ تنفيذ شروط الصندوق تباعًا.

كيف تُفسّر القفزة الأخيرة في الأسعار؟

لا يمكن الفصل ما بين مسار التفاوض مع حملة السندات، ثم إعادة هيكلة الدين العام، ومسار التفاهم مع صندوق النقد الدولي. فالتفاهم مع صندوق النقد، بات شرطًا لازمًا لتملك الدولة شهادة ثقة يمكن البناء عليها، قبل الاتفاق مع حملة السندات على استحقاقات وقِيَم جديدة لسنداتهم. كما ترتبط استعادة الدولة اللبنانيّة للانتظام المالي، بقدرتها على معالجة فجوة الخسائر في ميزانيّة مصرف لبنان، وعودة التوازن للقطاع المصرفي.

خلال الأشهر الماضية، تمكّنت الدولة اللبنانيّة من إنجاز خطوات مهمّة على طريق التفاهم مع صندوق النقد الدولي، وأهمّها إقرار قانونيّ رفع السريّة المصرفيّة وإصلاح أوضاع المصارف. وبات من المعروف أنّ الحكومة تستعد لبدء مناقشة قانون الانتظام المالي، خلال الشهر الحالي، على أمل إقراره في البرلمان قبل نهاية السنة. وهذا ما سيحقّق أبرز الشروط التي وضعها صندوق النقد، كي يوقع اتفاق جديد مع السلطات اللبنانيّة. ومن ناحية أخرى، جاءت خلال الفترة الماضية إشارات إيجابيّة من جمعيّة المصارف، تجاه مقاربة مصرف لبنان لملف توزيع الخسائر. وهكذا عزّزت هذه الإشارات الاعتقاد بإمكانيّة حصول اتفاق محلّي، على المعالم الأساسيّة لقانون الانتظام المالي.

وعلى المستوى السياسي، جاءت قرارات الحكومة الأخيرة بخصوص ملف حصر السلاح، بمواكبة ودعم غربي وعربي، وهو ما أكّد أن المرحلة السياسيّة المقبلة ستحظى بغطاء دولي كبير. وبطبيعة الحال، سيؤثّر هذا الغطاء على مسار التعافي المالي من ناحيتين: أولًا عبر التأثير على موقف صندوق النقد الدولي، وتسهيل الاتفاق مع لبنان. وثانيًا تمكين البلاد من الحصول على المساعدات والاستثمارات اللازمة، خلال مرحلة التعافي المالي.

على هذا النحو، يعكس ارتفاع أسعار السندات إلى أعلى مستوياتها، منذ التخلّف عن دفعها، ارتفاع التفاؤل بالمسارات السياسيّة والاقتصاديّة القائمة حاليًا، وإمكانيّة الانتقال قريبًا إلى مرحلة التفاوض على إعادة هيكلة الدين العام. لكن هذا التفاؤل، لا يزال يعكس مصالح وتطلّعات فئة محددة بعينها، وهي حملة السندات، الذين تنحصر أهدافهم في استرداد أكبر قيمة ممكنة من السعر الإسمي لسنداتهم عند إعادة هيكلة الدين العام. أمّا مصالح الآخرين، مثل المودعين أو المستفيدين من الخدمات العامّة، فسيتوقف تحقيقها على عدالة المقاربات التي سيتم اعتمادها في مسارات أخرى، مثل إعادة هيكلة المصارف أو إعداد الموازنة العامّة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةتعويضات نهاية الخدمة في خطر: الحل بعيد
المقالة القادمةدبوسي رحب بتعيين سفير جديد للإمارات في لبنان: يفتح صفحة جديدة من التعاون العربي..