مع ترك “حبل” الازمة للسنة الثالثة على التوالي مرخياً على “غارب” تغييب المعالجات الجدية، “لم تعد الطبقة الوسطى تشكل أكثر من 35 في المئة من المجتمع”، برأي الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. و”هي قد انحسرت من نحو 70 في المئة قبل 2019 مع استمرار الإنهيار النقدي وتراجع القيمة الشرائية للرواتب والأجور”. هذه الطبقة كانت مكونة أساساً من فئات الموظفين في القطاعين العام والخاص، وصغار التجار، وأصحاب المهن الحرة، ممن يتقاضون دخلاً يبدأ بمليوني ليرة، أي 1300 دولار وقتها، ويصل إلى حدود 6 ملايين ليرة، أي 4 آلاف دولار. ومن مميزات هذا الكم من المداخيل أنه لا يكفي فقط لتأمين الحاجات الأساسية والترفيهية، إنما يسمح أيضا بالادخار. وعلى الرغم من تراجع مداخيل هذه الطبقة إلى رقم يتراوح بين 70 و200 دولار أميركي إلا أن “جزءاً منها ما زال يستفيد إما من تحويلات من الخارج، وإما من مداخيل إضافية نتيجة مدخرات وتوظيفات مالية”، بحسب شمس الدين. “الأمر الذي حافظ على وجودها نسبياً، ولو أنها أصبحت بالمقارنة مع الماضي تنتسب إلى الطبقة الفقيرة أكثر منها المتوسطة”.
أساتذة الجامعة اللبنانية يشكلون المثال الصارخ على الإنعكاس المباشر للأزمة على أصحاب “الياقات البيضاء”، وبشكل غير مباشر على المجتمع. “عمود الوسط” الذي كان يشكل الرافعة الحقيقية للطبقة الوسطى تخلخل بقوة، إذ “أصبحت كلفة الوصول من مكان إقامتي إلى جامعتي تشكل 50 في المئة من الراتب الذي أتقاضاه”، يقول مدير كلية الفنون الجميلة والعمارة – الفرع الرابع في دير القمر الدكتور كمال أبو حمدان، و”الباقي لا يكفي لتأمين أبسط متطلبات الحياة من أكل وشرب”. وعلى عكس قسم من موظفي القطاع العام، لا يستفيد أساتذة الجامعة اللبنانية من بعض العطاءات والحوافز التي تعطى آخر العام، واتكالهم الأساسي هو على هذا الراتب. ومع تدني قيمته الشرائية إلى ما بين 80 و85 في المئة، فان “الاستمرار أصبح صعباً، إن لم يكن مستحيلاً”
الهجرة الحل الوحيدالأطباء، كل الأطباء ليسوا أفضل حالاً، صحيح أن متوسط التعرفة ارتفع من حدود 50 ألف ليرة إلى 200 ألف، لكن قيمتها الفعلية انخفضت من 33.3 دولاراً إلى 6 دولارات فقط، و”هي لا تكفي الطبيب لتأمين حياة لائقة”، بحسب مدير عام مستشفى بشامون التخصصي الدكتور معن الهنيدي. وفي أغلب الأحيان يشتكي المريض من عدم قدرته على تحمل الكلفة فيسامحه الطبيب بها أو بالقسم الأكبر منها
مع اشتداد حماوة الأزمة فان الطبقة الوسطى معرضة للذوبان أسرع وبنسب أكبر. وكل من يملك من أركان هذه الطبقة قدرات شخصية وكفاءات علمية وخبرات مهنية سيفكر حتماً بترك البلد والعمل في الخارج”، يقول حمدان. ومع خسارة أصحاب الاختصاص والكفوئين فان شكل البلد سيتغير ديموغرافياً واقتصادياً إذا ما استمر النزيف في الفئات المتوسطة.
مع أفول نجم الطبقة الوسطى التي صنعت للبنان أمجاده في مختلف الميادين التعليمية والصحية والخدماتية، فان “قيامة” البلد تصبح أصعب. فانحدار هذه الطبقة إلى ما دون خط الفقر الأحمر يترافق مع ارتفاع نسب “الفقر المدقع المتعدد الأبعاد” إلى 34 في المئة، بحسب تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا” الصادر في أيلول الفائت تحت عنوان “الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان: واقع أليم وآفاق مبهَمة”. واذا كان الفقر قد طال في السنوات الثلاث الأولى من الأزمة أصحاب الياقات البيضاء، فان انحدار العمال من أصحاب الياقات الزرقاء إلى الفقر المتعدد الابعاد، أي حالة الحرمان في بعدين أو أكثر من أبعاد الفقر، لا يقل خطورة. واذا أضيفت إلى هذين العاملين البطالة الهائلة التي تفشت في أوساط عمال قطاع الخدمات نتيجة اقفال المؤسسات وارتفاع التكلفة وعدم الاستقرار الأمني وغياب السياح… فان البلد يتجه في المقبل من الشهور إلى ما يشبه الشلل التام.
الانهيار الشامل يترافق مع انكار رسمي قلّ مثيله، ولعلّ موازنة 2021 التي وضعت أيام حكومة الرئيس حسان دياب خير دليل على ذلك. فهي لم تقف عند احتساب سعر الصرف على أساس 1500 ليرة للدولار فحسب، بعدما كان سعره قد وصل إلى 9000 في السوق السوداء، إنما لم تتضمن الاصلاحات المرجوة، ولا سيما الضرائبية منها. ومع الحديث عن قرب وضع موازنة 2022 على طاولة البحث فان الآمال معلقة على أن تأتي هذه الموازنة قريبة من الواقع وتتضمن الاصلاحات المطلوبة اقتصادياً، مالياً ونقدياً، للبدء بمرحلة التعافي والخروج من الأزمة، ولو أن هذا الأمل هو ضرب من ضروب الخيال غير الواقعي.