بعد نحو خمسة أعوام، يمكن القول إن نتائج الأزمة صارت واضحة. تلك التي أصابت المودعين كبيرة وظاهرة للعيان، أما الخسائر التي أصابت الاقتصاد فقد كانت بقسم منها ظاهرة، فيما هي تتراكم زمنياً. وخسائر الاقتصاد يمكن النظر إليها من خلال خسائر الناتج المحلي الإجمالي، إنما بشكل خاص يمكن النظر إلى الأجور والاستثمار والبطالة… هذه الخسائر غير مباشرة وتمتد في الزمن لسنوات مقبلة.
لمحة اقتصادية عامّة
يقف الاقتصاد اللبناني اليوم أمام خسارة نحو 65% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي بين 2019 ونهاية 2023. ومع هذا الانهيار في حجم الناتج، بقي الثابت الوحيد هو تدفقات التحويلات المالية القادمة من الخارج، والتي أصبحت تُشكّل نحو 30% من الناتج المحلّي، علماً أنها لم ترتفع كثيراً بعد الأزمة، بل بقيت قريبة من المستوى الذي كانت عليه قبل الأزمة وبلغت في 2023 نحو 6.7 مليارات دولار. ومن الجدير بالذكر أن الاقتصاد اللبناني استعاد قدرته على الاستيراد، بطريقة ما، إذ عاد حجم الاستيراد إلى مستويات قريبة لما قبل الأزمة. ففي 2023، استورد لبنان بضائع بقيمة 17 مليار دولار. وفي الوقت عينه، بدلاً من أن يكون انهيار قيمة الليرة عاملاً مساهماً بارتفاع حجم التصدير، بقي التصدير مكانه، وبلغ في سنة 2023 نحو 2.9 مليار دولار.
وقد انهارت العملة المحليّة، وتقلّصت قيمتها بنسبة 98%، وفقدت دورها كأداة لحفظ القيمة ثمّ كأداة للتسعير بعد قرارات دولرة الأسعار، وفي النهاية خسرت جزءاً كبيراً من دورها كأداة لإتمام المعاملات الاقتصادية. كان لانهيار قيمة الليرة انعكاس كبير على الأجور التي تلقّت ضربة لم تتعافَ منها بعد. وقد ظهر انهيار سعر الصرف على معدلات التضخّم التي ارتفعت نحو 57 مرّة بين بداية 2019 وشهر أيار 2024. وأخيراً، بعدما أصبح للدولار الدور الأساسي في الاقتصاد، بين حفظ القيمة والتسعير والتداول، تحوّل النظر إلى القيمة الشرائية للدولار، ففي حين أن الدولار جنى قوّة شرائيّة كبيرة في بداية الأزمة بدأت هذه القوة بالاضمحلال شيئاً فشيئاً حتى عادت القوة الشرائية للدولار إلى ما كانت عليه قبل الأزمة.
من هم الخاسرون؟
الهدف هنا هو رسم مشهدية لواقع الأمور، لتبيين الخسائر الحقيقية التي طاولت الاقتصاد اللبناني خلال خمس سنوات من الأزمة. وبالعودة إلى الفاعلين الاقتصاديين، من المهم معرفة حجم الخسائر التي تكبّدوها ونوعيتها من أجل إنصافهم. ومن الجدير بالذكر أن هذه ليست محاولة للمقارنة بين الخسائر ومعرفة من الشريحة التي خسرت أكثر. لكن قد تكون الإشارة إلى الفاعلين الذين استفادوا من الأزمة مجدية فعلياً.
أسهل من يمكن التعرّف على خسائرهم هم المودعون، سواء كانت ودائعهم مقوّمة بالليرة أو بالدولار. فالمودعون بالليرة خسروا قيمة ودائعهم بسبب انهيار سعر الصرف، ولم يُعوّض هذا الأمر بأي شكل من الأشكال، لذا يمكن القول إن هؤلاء خسروا نحو 98% من قيمة ثرواتهم المودعة في المصارف. أما المودعون بالعملات الأجنبية، وهي الدولار بشكل خاص، فقد أدّى فقدان السيولة والملاءة المصرفيتين إلى خسارة هذه الودائع، إلا ما يُسلّم إليهم بحسب التعميمين 158 و166 اللذين يؤمنان بعض مئات الدولارات للمودعين شهرياً. قد تكون الطريقة الفضلى لقياس خسارات أصحاب الودائع بالدولار هي عن طريق معرفة القيمة السوقية الحالية لودائعهم، والمؤشّر الأقرب لهذه القيمة هو سعر الشيكات المصرفية الحالية في السوق. هذه الشيكات تُباع اليوم بنحو 10% من قيمة الوديعة، بمعنى أنه إذا كانت قيمة الوديعة 100 ألف دولار، فإن الشيك المصرفي لهذه الوديعة يباع في السوق بقيمة 10 آلاف دولار، ما يعني أن القيمة الفعلية للوديعة هي 10 آلاف دولار. في هذا السياق تكون الخسارة التي تكبّدها المودعون بالدولار نحو 81 مليار دولار، أو 90% من الودائع. (إذا احتسبنا حجم الودائع بالدولار الموجود الآن، إذ إن جزءاً من المودعين استلم ودائعه بالليرة اللبنانية، وجزءاً آخر باع وديعته على شكل شيك مصرفي، وهؤلاء حققوا خسائرهم).
في المقابل، هناك فئات اجتماعية أخرى تلقّت خسارة كبيرة، وهي خسارة مستمرّة بلا توقف. المودعون جزء من هذه الفئة أيضاً، إذ إنهم تلقّوا، إلى جانب خسائر مباشرة في الودائع، خسارة في أجورهم وقدراتهم الشرائية. فالعمّال، سواء كانوا من ذوي الدخل المتوسط أو الدخل الأعلى، خسروا جزءاً كبيراً من أجورهم. هذه الخسارة حصلت مع انهيار العملة المحليّة، إذ إن معظم العمّال والموظفين في القطاعين العام والخاص كانوا يتقاضون أجورهم بالليرة اللبنانية، حتى لو كانت مقوّمة بالدولار على الورق. وبانهيار قيمة العملة انهارت قيمة الأجور، واستمرّ هذا الأمر مع التدهور المستمر لسعر صرف الليرة أمام الدولار. حتى بعد التصحيحات المتتالية للأجور سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص. يُقدّر بعض الخبراء الاقتصاديين أن قيمة الأجور في القطاع الخاص تساوي اليوم، بعد كل التصحيحات، نحو 70% مما كانت عليه، كمعدّل وسطي. وإذا أضيفت الخسائر التي لحقت بأجور القطاع العام، تُصبح قيمة الخسائر الإجمالية للأجور نحو 60% مما كانت عليه قبل الأزمة، لأن تصحيح الأجور في القطاع العام كان ضئيلاً جداً نسبةً إلى ما كانت عليه في 2019. قد تبدو خسارة 30% أو 40% من قيمة الأجور قليلة، لكن هذه الخسارة هي خسارة متواصلة منذ خمس سنوات وستستمر لفترة طويلة أيضاً. وانعكاس هذه الخسارة على الاستهلاك والقدرة الشرائية كبير جداً. كانت الأجور تساوي نحو ربع الناتج، أما اليوم فإن التقديرات تشير إلى أنها لا تتجاوز 15% منه (في سنوات الأزمة غابت الأرقام والإحصاءات عن الاقتصاد اللبناني، علماً أنها لم تكن متوافرة بشكل كبير في السابق)، وأن الناتج كان 55 مليار دولار قبل الأزمة وصار اليوم 18 مليار دولار. وفق حسابات سريعة، خسائر الأجور تساوي سنة كاملة من الناتج قبل الأزمة، وستصبح مساوية لخسائر الودائع قريباً.
بعض الفئات الرابحة
بطبيعة الحال، وكما يحدث في أي وضع، هناك فئات مستفيدة. وهذا الأمر لا يعني أن هذه الفئات شريرة، لكن الفوضى التي أرستها الأزمة مع غياب التدخّل المطلوب من الدولة، بجميع أفرعها، جعلت من الممكن الاستفادة من الأزمة. ظهر الأمر بداية بالمقترضين الكبار الذين استطاعوا أن يسدّدوا قروضهم بالعملات الأجنبية وبالليرة من خلال شراء شيكات مصرفية لودائع بأقل من قيمتها الدفترية. وهذا الأمر مثّل عملية انتقال للثروة من المودعين الذين باعوا ودائعهم بسعر سوقي أقل من القيمة الدفترية للودائع. من ناحية أخرى، أصحاب المؤسسات والشركات أعادوا أرباحهم إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، وهذا الأمر كان واضحاً مع عودة الأسعار بالدولار، في بعض القطاعات، إلى مستويات ما قبل 2019. والفكرة أن هذا الأمر تزامن مع انخفاض أكلاف العمّال والموظفين، ما يعني أن هوامش الأرباح أصبحت أكبر من قبل.
بشكل عام، خسائر الأزمة طاولت الجزء الأكبر من اللبنانيين، إلا الفئة المحظية التي بقيت أرباحها ومداخيلها ثابتة. وهذا الأمر وسّع فجوة اللامساواة بشكل كبير أيضاً. الأزمة شوّهت شكل الهيكل المجتمعي، كفئات مجتمعية، وشوّهت شكل الهيكل الاقتصادي، كفاعلين اقتصاديين.