أمّا وقد وصلنا الى هذه المرحلة المتقدمة في الأزمة المالية، وأصبحت كلّ القطاعات موضع شكّ، وعلى لائحة المساءلة، يسعى المواطنون حالياً الى معرفة الجواب على سؤال وحيد تحوّل الى Trademark سياسيّ: الآن، الى أين؟
لا تصل أيّ أزمة مالية في العالم الى حقبة تضطر فيها المصارف في نظام اقتصادي حرّ، الى اتخاذ إجراءات استثنائية، بما فيها وضع قيودٍ على التحاويل الى الخارج وتحديد سقف للسحوبات، قبل إصدار قانون يحميها، اذا لم تكن تلك الأزمة قد بلغت مرحلة متقدمة من الخطورة، وصارت على قاب قوسين أو أدنى من الانهيار التام. وهنا، ينبغي التفريق بين إجراءات يتخذها مصرف واحد يتعرّض لأزمة ثقة طارئة، وبين إجراءات جماعية تتخذها كلّ المصارف، لحماية النظام المالي برمته من الانهيار.
حاليا، دخل البلد في مرحلة تسبق إعلان التعثّر، (نوع من الإفلاس بعبارة مُلطّفة). لذلك، بدأت مرحلة «إدارة السيولة»، التي تعني التمسّك بما لدينا من أموال، ومحاولة الحدّ من النزف المالي، بانتظار اللحظة المناسبة لإعلان «طلب النجدة».
قبل الوصول الى هذه المرحلة، كان معروفاً أنّ تحاشي الكارثة من خلال اتخاذ مجموعة إجراءات، مرهونٌ بعامل الوقت، لأنّ أيّ اجراء لن يُجدي نفعاً اذا جاء متأخراً عن اللحظة المناسبة لاتّخاذه وتنفيذه. اليوم، لا تزال هذه المعادلة قائمة، لكن التوقيت (Timing) المناسب، لم يعد من أجل تحاشي الإفلاس، بل صار من أجل اختيار نوع الافلاس.
هذا التوصيف ليس من أجل المبالغة في التشاؤم، بل لتسليط الضوء على الفرق الشاسع بين إفلاس منظّم في وضعية سياسية طبيعية، وبين إفلاس فوضويّ يحوّل الوضع السياسي الشاذّ دون اعتماده في الوقت المناسب، وبالطريقة الفُضلى.
في التفاصيل، لا بدّ من إعادة التذكير بأنّ أزمة الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها المصارف، لم تبدأ في 17 تشرين الاول، بل سبقتها بأسابيع طويلة.
ومبادرة مواطنين الى سحب الاموال النقدية من المصارف وإيداعها المنازل، بدأ قبل اندلاع الانتفاضة الشعبية بأشهر. هذا السلوك يعني أنّ بوادر أزمة الدخول في دائرة الإفلاس شعر بها الناس قبل الانتفاضة بفترة غير قصيرة.
كذلك أدرك من يتابع الاقتصاد عن كثب بهذه الأزمة قبل فترة أطول بكثير. ومنذ نهاية 2018 ومطلع 2019، ثبُت لمن يقرأ الوضع الاقتصادي بموضوعية، انّ البلد دخل مرحلة الإفلاس، وبات تحاشي الانهيار شبه مستحيل، وأن الأهمّ صار في هذه المرحلة تنظيم مسألة إعلان التخلّف عن الدفع، وبدء خطة الإنقاذ ( baillout). وللتذكير، مرّ العام 2019 من دون أن تتمكّن الدولة اللبنانية من إصدار أيّ اكتتاب بسندات الخزينة بالعملات الأجنبية، (يوروبوند). واضطر مصرف لبنان الى دفع مستحقات الدين العام في هذه الفترة من احتياطه النقدي.
حالياً، هناك حاجة الى إجراءات وقائية سريعة في انتظار أن يسمح الوضع السياسي باعلان قرار إعادة جدولة الدين العام (الافلاس)، وطلب خطة إنقاذ، من أهمها:
أولا- إصدار قانون الـCapital control مع تفاصيل تنفيذه في أسرع وقت ممكن، لمنع احتمال استمرار خروج الاموال، ولحماية المصارف من الدعاوى التي بدأت تُمطر عليها من كلّ حدب وصوب.
ثانياً- بذل مجهود لتوحيد الإجراءات بين المصارف، لأنّ المحاولة الاولى التي قامت بها جمعية المصارف تعرضت لخروقات وثغرات، ومن الأفضل العمل على تصحيح الوضع، وتوحيد الاجراءات بشكل مُعلن وواضح ولا يحتمل الالتباس.
ثالثاً- إعادة النظر بالاجراءات المتخذة حيال القطاع الخاص بشكل عام، لحماية الاقتصاد الوطني من الانهيار الشامل، والمجازفة باضطرابات اجتماعية وربما أمنية تقضي على ما تبقى من أمل في الانقاذ.
مع الاشارة الى أن حجم القروض المصرفية الى القطاع الخاص تقارب الـ60 مليار دولار، حوالى ثلثها موظّف في القروض العقارية. وقد بدأت نسبة الديون الهالكة في الارتفاع، وهي مهددة بالارتفاع الدراماتيكي في الاشهر القليلة المقبلة، خصوصاً على مستوى قروض الافراد، وهي القروض التي كانت لا تزال الأفضل، قياساً بالنسبة الصغيرة التي تتضمنها من ديون هالكة.
رابعاً- وقف الحملات المشبوهة على القطاع المصرفي بشكل عام، لأن استمرارية هذا القطاع تعني استمرار ضخ الاوكسجين ولو بنسبة ضئيلة في الاقتصاد، في حين ان ضرب هذا القطاع بالشائعات، أو بتحميله مسؤولية ما اقترفته أيادي السلطة السياسية السوداء، هو ضرب من ضروب الاغتيال السريع للبلد وأهله. وينبغي التنبّه الى أن افلاس الدولة في توقيت مناسب يعتبر ضربة قاسية لكنها قابلة للمعالجة في فترة زمنية محددة.
أما ضرب المصارف وصولاً الى إفلاس القطاع، سيكون بمثابة مصيبة وطنية ستؤدي الى ضياع شبه كامل للودائع وانهيار شامل للاقتصاد، وكارثة ستمتدّ تداعياتها الموجعة الى سنوات طويلة جداً في المستقبل.
خامساً- الاستعداد النفسي لمرحلة أكثر صعوبة في الايام المقبلة، ومحاولة التأقلم مع واقع جديد مرير سوف يستمرّ لفترة، قد لا تكون قصيرة.
في النتيجة، يبدو قرار إعادة جدولة الدين العام ليس كارثة في حدّ ذاته، لكن الكارثة تكمن في توقيت إعلانه. على هذا التوقيت تتوقف حياة اللبنانيين ومصيرهم، والسلطة السياسية وحدها تملك هذا القرار.
اذا أحسنت الخيار، نستطيع ان نذهب الى إفلاس نتائجه مقدورٌ عليها، واذا اساءت التصرّف، كما اعتادت أن تفعل حتى اليوم، لن يكون في مقدورنا اعلان الافلاس في التوقيت المناسب، وسنذهب الى إفلاس قسري بعد بضعة أشهر (سنة على الأكثر)، ستكون نتائجه كارثية بما يفوق الوصف.