وصلت بلديّة بيروت إلى حافة الإفلاس. ليس ذلك نتيجة الأزمة الماليّة فحسب، بل حصيلة «طبيعيّة» لعمليّة نهب ممنهجة استمرت سنواتٍ طويلة، «شفط» خلالها القيّمون على المجلس البلدي الأموال من دون حسيب ولا رقيب، إمّا مباشرة أو عبر سماسرة تغصّ بهم أروقة البلديّة، قبل أن يهجرها الجميع بعدما أُفرغت من أموالها قبل أن يأكل التضخم ما تبقّى
أكثر من 15 إخباراً إلى القضاء قدّمها ناشطون في حق محافظ بيروت السابق زياد شبيب (انتهت ولايته منذ أكثر من 3 سنوات) الذي يفترض أن يمثل أمام القضاء قريباً في أكثر من ملف، فيما «تنام» ملفات أخرى في أدراج قضاة أحيل بعضهم إلى التقاعد. الإخبارات، في حال صحتها، تجعل من شبيب أبرز مهندسي «إمبراطوريّة الهدر». كذلك، تطال إخبارات أخرى رئيس البلدية السابق جمال عيتاني الذي يبدو أنه كان «متنبّهاً» للأمر حين حاول، في الفترة الأخيرة قبل استقالته، إقناع المجلس بالتعاقد مع إحدى شركات المُحاسبة للتدقيق في حسابات البلديّة، وتدبير «إخراجٍ قانوني» للأموال التي هُدرت في عهده، ومن بينها، على سبيل المثال، مليون دولار لجمعيّة «Beasts» لإقامة حفل رأس السنة 2018/2019 وتزيين الشوارع ونصب شجرة الميلاد وتزيين الشوارع في عيد المولد النبوي عام 2018 وفي شهر رمضان 2019… وهي «مشاريع» لم يُنفّذ بعضها أساساً! فيما وقّع شبيب استثنائياً على صرف المبلغ لـ«Beasts» رغم عدم تقديم اللجنة التي عيّنها تقريراً بالموافقة على الصرف لعدم وجود مستندات تبرره!
وبحسب مستندات اطّلعت عليها «الأخبار»، أنفقت البلديّة خلال ثلاث سنوات، بين أيلول 2016 وتشرين الأوّل 2019، نحو 121 ملياراً و400 مليون ليرة (نحو 83 مليون دولار) على مشاريع نُفذت بشكل مخالف للقانون أو لم تنفّذ أساساً، ومنها قرار بمعالجة النفايات الصلبة بداية عام 2019 مقابل 29 مليار ليرة، وآخر في تموز 2017 برفع مستوى الخدمات في رأس بيروت مقابل 7 مليارات و700 مليون ليرة، ونحو 12 مليار ليرة دُفعت لشركة جهاد العرب لصيانة الأرصفة وتزفيت الطرقات نهاية عام 2016، والمبلغ نفسه للشركة نفسها في التاريخ نفسه لرفع مستوى الخدمات في منطقة صبرا وتأهيل البنى التحتيّة في بعض شوارع الطريق الجديدة، ومبلغ مُشابه لشركة «هايكون» التي يمتلكها عماد الخطيب (ترشح إلى انتخابات 2018 عن تيار المستقبل في منطقة مرجعيون) لرفع مستوى الخدمات في منطقة كرم الزيتون وبعض شوارع الأشرفيّة، و9 مليارات ليرة للشركة نفسها لتنفيذ مشروع زراعة شوارع المنطقة، بالإضافة إلى مليون و700 ألف دولار دُفعت للشركتين المتحدتين «رفيق الخوري وشركاه» و«Vladimir Djurovic» لدراسة مشروع تطوير الواجهة البحرية الممتدة من عين المريسة إلى الحمام العسكري والذي لم يُنفّذ!
«متعهّد» البلدية: «هايكون»
هذا غيض من فيض مشاريع أدّت إلى هدر الأموال العامّة وإفلاس الصندوق البلدي الذي بات يُعاني من العجز. ويتبيّن حجم الهدر من مقارنة المشاريع مع أُخرى نُفّذت بعد الأزمة المالية. فعلى سبيل المثال، كانت شركة «هايكون» تتقاضى سنوياً أكثر من 976 مليون ليرة (650 ألف دولار في حينه) مقابل صيانة مقر المجلس البلدي وتنفيذ أعمال التنظيف (إصلاح الأبواب والنوافذ وصيانة المولد الكهربائي وأجهزة الهاتف والمضخّات ورشّ المبيدات)، ليتبيّن أن «هايكون» لزّمتها من الباطن لشركة أخرى يملكها لاعب كرة السلة فادي الخطيب!
ويبيّن العقد أن الكلفة الشهرية لتنظيف مقر البلدية قاربت 26 مليوناً و400 ألف ليرة بين عامي 2018 و2019، و633 مليوناً و600 ألف ليرة بين عامي 2019 و2020. وبعدما رفض ديوان المحاسبة التجديد لـ«هايكون» وتعاقد البلدية مباشرة مع الشركة التي كانت تعمل بالباطن، قُدرت كلفة التنظيف بنحو 211 ألف دولار، أي بفارق 200 ألف دولار عن العقد الموقّع مع «هايكون». أما في ما يختص بالصيانة، وبعد قرار ديوان المحاسبة تكليف موظفي البلدية القيام بهذه الأعمال، أصبحت الكلفة لا تتعدى ثمن قطع الغيار لبعض الماكينات!
الأمر نفسه ينطبق على صيانة جسر سليم سلام الذي دفعت البلدية 12 مليار ليرة (8 ملايين دولار وفق سعر الـ 1500 ليرة) لشركة «أنطوان مخلوف للتجارة»، فيما قدّر ديوان المُحاسبة أن كلفة الأعمال التي نُفّذت لا تتعدّى 3 ملايين دولار!
هذه الملفّات تنام في أدراج القضاء الذي قلّما يتحرّك في الإخبارات التي يقدمها ناشطون حقوقيون على القائمين على البلديّة، ومنها مثلاً الإخبار المقدّم ضد عماد الخطيب بجرم «هدر المال العام» في مشاريع زراعة شوارع المدينة، بعدما تبيّن أن العديد الأشجار والنباتات التي تضمّنها دفتر الشروط المتفق عليه بين الطرفين لم تتم زراعتها، فيما تُرك بعضها يواجه مصيره بعد رميه في حرج بيروت.
كذلك، لم ينهِ القضاء النزاع القائم بين البلدية و«هايكون» على خلفيّة وقف العمل في «حديقة المفتي حسن خالد» بعد فسخ العقد بين الطرفين وإصرار الشركة على أن تعيد إلى البلدية بالليرة اللبنانية الأموال التي تقاضتها بالدولار! وتستمر التحقيقات في ملف الحديقة من دون الادعاء بعد في جرم «هدر المال العام»، فيما قدّم «المرصد الشعبي» عبر المحامي علي عبّاس إخباراً ثانياً في الملف يوضح فيه بالصور كيف تمت سرقة التراب من داخل الحديقة، إضافة إلى عدم إعادة زرع الأشجار المعمّرة كما اتفق الطرفان في العقد. ويفترض أن تُعقد جلسة للاستماع إلى عماد الخطيب قريباً بعدما ردّ المدعي العام المالي الدفوع الشكليّة التي قدّمها وكيل الدفاع عنه!
فضائح بالجملة
أبرز الإخبارات قدّمها «المرصد» ضد شبيب الذي قام بـ«صرف مريب ومشبوه لأموال البلدية، ومنها قيامه بتسديد مبالغ ضخمة مقابل شراء كتب ومجلات جرى وضعها على سطح مقر البلديّة»، وإعطاء مساهمات مالية شهرية من مكتب المحافظ لـ«مواقع إلكترونية وصحف ومراكز خدمات إعلاميّة» بعضها لم يُسمع به يوماً! وإلى ذلك، بحسب الإخبار، صرف شبيب أموالاً بشكلٍ عشوائي على شكل سلف وفواتير لم يُذكر اسم المستفيدين فيها، ويشكّك البعض بأنّها كانت أشبه بـ«صرفٍ وهمي». بعض هذه الشيكات خصص لشراء مستلزمات مكتبه، وتم تنظيم فواتير بها من قبل المتعهد خليل زيدان تحت تسمية «ورد وضيافات وشتول في مكتب المحافظ». واعتمد الأخير أحد الموظفين في البلدية لتسليمه الأموال التي بلغت عام 2017 نحو 500 مليون ليرة كنفقات تمثيل وإعلانات ومؤتمرات وحفلات، فيما كان شبيب يصرف مليونين و500 ألف ليرة كلّ شهرين ثمناً لورود للزينة في مكتبه! وتقصّد شبيب صرف هذه الأموال على شكل سلف تقلّ قيمة كل منها عن 3 ملايين ليرة، وتخطّى عدد هذه السلف في عام 2015 وحده 97 مليون ليرة، ووصلت إلى 20 مليون ليرة في كانون الثاني وحده من ذلك العام، من بينها سلفتان للقرطاسية، قيمة كل منهما 3,5 ملايين ليرة (أي 5 آلاف دولار للقرطاسية في شهر واحد)!
ولأن السنة الأولى للمحافظ كانت «خجولة»، على ما يبدو، ارتفعت قيم السلف في العام الذي تلاه، أي 2016، إلى أكثر من 152 مليون ليرة، كانت كلها تُحوّل إلى حسابات شخصيّة لأحد المحسوبين عليه مخوّل بالدفع باسمه.
كما كان المحافظ يتقاضى 4 ملايين ليرة شهرياً (حوالي 2700 دولار) بدل انتقال، رغم أنّه كان يستخدم آليّات تعود للبلديّة، رغم التعميم الصادر عن مجلس الوزراء عام 1974 والذي ينص على أنه «لا يحق للأشخاص الذين يتقاضون تعويض نقل مقطوعاً استعمال السيارات الرسمية في تنقلاتهم».
وعلى مدى سنوات، كان شبيب يصرف مبالغ شهرية لشراء عصير الكوكتيل لمكتبه من شركة تتعاطى أعمالاً تجارية مختلفة لا علاقة لها بالكوكتيل، كمكافحة الحشرات! وأظهر استجواب أحد الموظفين في الشركة أن شبيب طلب منه فواتير فارغة!
وتبيّن بحسب الإخبارات العديدة المقدّمة ضدّه، أنّ شبيب صرف مبالغ مالية بقيمة 20 مليون ليرة لمكافحة فيروس «كورونا» في عدد من المناطق، واستفاد منها ضابط في فوج الإطفاء مقرب منه متجاوزاً قائد الفوج الذي يُفترض أن تُصرف الأموال عبره. فيما لم يتبيّن بحسب التحقيقات قيام البلدية بأيّ خطوة في هذا الصدد تبرّر صرف 10 آلاف دولار!
كذلك عمد المحافظ السابق إلى استصدار قرارٍ مخالف للقانون يحمل الرقم 384، لتقاضي مبلغ مقطوع بقيمة 6 ملايين ليرة شهرياً كبدل تعويض التمثيل، رغم قرار المجلس البلدي عام 2003 بإلغاء تعويض التمثيل سنداً إلى أحكام القانون الرقم 717/98 المتعلّق بتحويل سلسلة الرتب والرواتب لموظفي الإدارة العامّة!
وتتهم الإخبارات المحافظ السابق بفتح باب لـ«الواسطات»، ما أدّى إلى ضياع الأموال على البلدية بعد ارتكابه مخالفتين للمادة 20 من القانون الرقم 79/2018 التي نصّت على تخفيض الغرامات المتوجّبة بنسبة 90% عن متأخرات الرسوم البلدية، شرط تسديد هذه المتأخرات خلال 6 أشهر من تاريخ نشر القانون، إذ ساعد شبيب على إفادة عدد من المكلّفين من التخفيض مع تقسيط المتأخرات وليس دفعها كاملة، رغم أنّ التقسيط شرط للاستفادة من الإعفاء، ومن بين المستفيدين من «استثناءات» شبيب «مستشفى رزق» وشركتا «Nexus» و«Z.A».
ويتهم أحد الإخبارات شبيب بالاحتفاظ بشيكات مرتجعة في خزنته الخاصة تتجاوز قيمتها مليون دولار بعد قيام البلدية بدفع مبالغ متكرّرة بالخطأ لاستملاك عقارات في منطقة المزرعة، ولم تخرج هذه الشيكات إلا بعد مطالبات من ديوان المحاسبة وكتب صادرة عن دائرتَي المالية والخزينة! ويتهم المحافظ السابق بتشجيع أصحاب عقارات على تقديم دعاوى ضد البلدية في قضايا استملاكات تم التراخي في الدفاع فيها ليقبض المدّعون أموالاً طائلة، وهو ما حصل مع مالك عقار في منطقة المدوّر قبض تعويضاً قدره ثلاثة ملايين دولار.
وإلى ما سبق، لا يزال الإخبار المتعلق بدفع بلدية بيروت 6 ملايين دولار لبلدية برج حمود مقابل طمر نفايات العاصمة في مكبّها، فيما تظهر الفواتير أن بعضها صادر بتواريخ كان المطمر فيها مقفلاً، وتبيّن الكشوفات اختلافاً بين كميات النفايات في الفترة نفسها.
كل ذلك يؤكد أنّ ما ارتكب على مرّ السنوات الماضية كان هدراً ممنهجاً لانتفاع بعض الأشخاص بطرق غير قانونيّة، وتكون نتيجته الطبيعيّة أن يرزح الصندوق البلدي تحت خطر الإفلاس، فيما القضاء الذي بات يمتلك المستندات والوثائق يطمر رأسه في الرمال.