إضراب مباغت لمستخدَمي “النافعة”: مطالب محقة أم تمرّد فاسدين؟

أنهى 34 عنصراً متقاعداً من قوى الأمن الداخلي امتحاناتهم اليوم الإثنين 20 تشرين الثاني، بعد دورة مكثّفة خضعوا لها، تمهيداً لإدخالهم إلى هيئة إدارة قطاع السير والآليات والمركبات، كرفدٍ إضافي للموظفين الحاليين. مع فارق جوهري، أن المتقاعدين سيشكّلون الخطوة الأولى التي أرادتها وزارة الداخلية، في طريق إصلاح القطاع بعد وصول قضايا الفساد فيه إلى حدٍّ لا يمكن لأحد تغطيته على المستوى السياسي.

لكن خطوة الإصلاح المفترضة، لا تعني قلب الموازين بمعدّل 180 درجة. فالعناصر الجدد لا يستطيعون فكّ طلاسم العلاقات المتشابكة بين جيش من الموظفين والسماسرة ومعقّبي المعاملات ومكاتب تعليم قيادة السيارات، والمتّصلين بمن هُم أعلى “رتبة” في سلَّم الفساد. وهم يتوقّعون مواجهات متعدّدة الجوانب، بدأت بوادرها تظهر قبل استلامهم عملهم، وذلك من خلال إعلان مستخدمي هيئة إدارة السير “الإضراب المفتوح والتوقّف القسري عن العمل بدءاً من اليوم الإثنين 20/11/2023، ولحين تحقيق المطالب”. فماذا يحمل هذا الملف من تطوّرات وخبايا؟

توقيت ملتبس

على بُعد يوم واحد من استئناف هيئة إدارة السير “النافعة”، استقبال طلبات المواطنين المتعلّقة بتسجيل السيارات وإنجاز معاملاتها والحصول على رخص سوق، أعلن المستخدمون إضرابهم.

عنوان الإضراب معيشي مطلبي بحت، يحاكي إضراب موظّفي باقي إدارات ومؤسسات الدولة، إذ ينطلق من تأخّر المستحقّات. إذ يقول المستخدمون في بيان لهم أن “مستحقاتنا تتأخّر وتُعَرقَل أمورنا باستمرار وفي كل فرصة. ومحرومون منذ سنوات من المِنَح على أنواعها، ناهيك عن بدلات التحصيل العلمي والخدمة الفعلية التي لا تطبق أصلاً”. وأضافوا أنهم تقاضوا “جزءاً زهيداً من مرتّبنا، ونعاني حالياً من تأخّر في صرف الجزء المتبقّي منه، والمتمثّل بزيادة الأضعاف الأربعة وبدل نقل 450 ألف ليرة أسوة بموظفي القطاع العام، بحجة وضعنا الاستثنائي كمستخدمين في ملاك مؤسسة عامة والمسار المختلف للمعاملات المتعلقة برواتبنا وملحقاتها”.

اللافت في إعلان الإضراب، أنه جاء “بلا مقدّمات أو مطالبات أو تحرّكات مسبقة تمهِّد لإعلان الإضراب، وهي الخطوات المتَّبعة عادةً في أي إدارة أو مؤسسة عامة، إذ يلجأ الموظفون إلى التحرّك تصاعدياً ولا يذهبون للإضراب مباشرة. خصوصاً وأن إعلان الإضراب يأتي قبل يوم واحد من إعلان استئناف العمل في النافعة”، وفق ما تقوله مصادر متابعة لملف النافعة.

ترفض المصادر الذهاب نحو التفسير المؤامراتي لإعلان هذا الإضراب، لأن “منطلَقَه محقّ وصحيح. والمستخدمون لهم الحق في الحصول على رواتب ومستحقات من دون منّة من أحد”. لكن في الوقت عينه، تسأل المصادر عن سبب “عدم الانتظار لبضعة أيام، لتفتح النافعة أبوابها وتستقبل طلبات المواطنين وتيسِّر أعمالهم، وبعدها يُفتَح ملف المطالب، وبذلك يكون المستخدمون قد أوصلوا رسالة حسن نيّة، مفادها انهم مستعدون لمواصلة عملهم، لكن هذا العمل لا يتم بلا رواتب ومستحقات”.

بالتوازي، ما لا تفصح عنه المصادر صراحةً، تبيِّنه التجربة بوضوح. فأغلب التكتّلات والنقابات التي تحوي موظفين في الإدارات والمؤسسات العامة، تتحرّك وفق ما تقتضيه مصلحة المنتفعين أو المتضررين من الصفّ الأوّل. وفي ملف النافعة، لم يعد سرّاً انغماس رأس الهرم الإداري بقضايا الرشاوى والفساد. ومع استئناف العمل في النافعة، يأتي الإضراب. فهل هناك من لا يريد للنافعة أن تعاود تقديم خدماتها؟.

الإجابة على هذا السؤال تحيط بتفرّعات ملف النافعة بدءاً من تلزيم شركة إنكريبت والتمديد لها، وصولاً إلى حملة الاعتقالات التي طالت كبار الموظّفين، مروراً بفضائح معقّبي المعاملات والرشاوى التي يأخذها الموظفون من مختلف الفئات الوظيفية.

محاولات الإصلاح وبعض التفاؤل

الانطلاق من ارتباط العسكريين المتقاعدين والمختارين للعمل في النافعة، بالعقيد خالد يوسف المكلَّف بمهام رئيس مصلحة تسجيل السيارات، يُعطي بوادر إيجابية حول وجود نواة أولية للإصلاح. فبعيداً من هوية يوسف على المستوى الشخصي، فإن “دخول مجموعة من العسكريين المتقاعدين والمدرَّبين على الخدمة العامة على مدى سنوات خدمتهم في السلك العسكري، يعني حكماً الانطلاق من نقطة بداية مختلفة عمّا هو معمول به داخل النافعة منذ سنوات”، على ما تقوله المصادر، التي تشير في حديث لـ”المدن”، إلى أن اختيار الأشخاص تمّ بناءً على “إضبارات عملهم في السلك العسكري”. وهذه هي الناحية النظرية من بوادر الإصلاح. أما الناحية العملية فهي “اشتراط العناصر أن يستند عملهم بعد تعيينهم، إلى راتب جيّد يتيح لهم العيش بكرامة وسط هذه الأزمة. والراتب مع بدل النقل، يفترض أن لا يدفع العناصر للاعتماد على ما يمكن تحصيله من الناس بصيغة الرشوى”.

ولعدم المغالاة في المثالية، لا تنفي المصادر احتمال موجهة العناصر للرشاوى “وهنا يأتي دور الرقابة التي تجريها وزارة الداخلية عبر العقيد يوسف. وهذه مرحلة أولى. ولمزيد من الرقابة والتصحيح لمسار العمل في النافعة في الوقت عينه، اقترح بعض العناصر تزويدهم بألواح إلكترونية “تابليت” يجرون عليها تقييم فحوصات القيادة، ويُدخلون علاماتهم وملاحظاتهم بشكل تقني على تلك الألواح، لتذهب بمجرّد الضغط على زر الإدخال، إلى النظام الإلكتروني العام في النافعة. وهذا الاقتراح ما زال قيد الدرس”.

التغييرات الإدارية والدمج بين الموظفين العاديين والعسكريين المتقاعدين “أزعَجَ الكثير من المنتفعين في هيئة إدارة السير. لكنّهم لن يستطيعوا الذهاب أبعد من خطوة الإضراب غير العام. فعدد كبير من الموظفين لن يمتثل للإضراب، وستفتح النافعة أبوابها غداً وتستأنف عملها تباعاً”. وتلفت المصادر النظر إلى أن “العناصر الذين تم اختيارهم، قد يكونون دفعة من دفعات كثيرة قد يتم استدعاؤها لاحقاً، تبعاً للحاجة وبحسب سير العمل في النافعة”.

شدٌّ للحبل من الطرفين. بوادر إصلاح خجولة ومقيَّدة بنظام تحاصصي معقّد ومتين، ومحاولات الاعتراض على الإصلاح والدفع لاستئناف الفساد بكافة أشكاله. هو صراع مستمر في كل الإدارات والمؤسسات، والثمن يدفعه المواطن.

مصدرالمدن - خضر حسان
المادة السابقةماذا يجري في مصرف لبنان؟
المقالة القادمةمصرف لبنان يرفع الإحتياطي بالدولار… مؤشر نقدي إيجابي