حين أبلغ مالك منصّة تويتر الجديد، إيلون ماسك، موظّفي المنصّة في اجتماع داخلي أنّ إفلاس مؤسستهم سيناريو وارد، ظنّ الجميع أن الملياردير المتسرّع يبالغ في تقييم الموقف، لتبرير خطوة صرف نصف الموظّفين فور شرائه الشركة، وتخيير النصف الآخر بين العمل الشاق لساعات طويلة أو مغادرة الشركة (راجع المدن). إلا أنّ التمحيص في ميزانيّات الشركة اليوم، وخصوصًا بعد إتمام صفقة الاستحواذ عليها من قبل إيلون ماسك، سرعان ما يظهر أنّ الشركة قد تكون أمام إفلاس وشيك فعلًا، وأن ماسك لم يبالغ عندما لوّح بهذا الأمر.
وفي واقع الأمر، يبدو أن كل ما يقوم به ماسك اليوم من خطوات متخبطة ومتهوّرة، ليس سوى نتيجة لكابوس إفلاس المنصّة الذي يلاحقه ليلًا ونهارًا. لكن، وبخلاف ما يقوله ماسك، لم ينتج هذا الكابوس من المصاعب التي عانت منها تويتر سابقًا وحسب، بل فاقم من سوداويّة المشهد طريقة استحواذ ماسك على المنصّة، والقرارات التي اتخذها فور إتمام هذه الصفقة. فمنذ تلك اللحظة دخل ماسك دائرة مفرغة، إذ يدفعه الخوف من المصاعب الماليّة باتجاه المزيد من القرارات الطائشة، فيما تدفع هذا القرارات تويتر باتجاه المزيد من التأزّم المالي. وبخلاف توقّعات البعض، لن يكون أثرى إنسان على سطح الأرض قادرًا على تعويم المنصّة بأمواله الخاصّة قريبًا.
مخاطر ديون تويتر المستجدة
لفهم مخاطر الإفلاس التي تحيط بتويتر، من المهم البدء من لحظة استكمال إيلون ماسك لصفقة شراء هذه المنصّة، خلال الشهر الماضي. فمن بين 44 مليار دولار التي سددها ماسك لتملّك هذه المنصّة، ثمّة نحو 13 مليار دولار من الأموال التي تم تأمينها من مجموعة من البنوك العالميّة، على شكل قروض وتسهيلات تجاريّة، فيما أمّن ماسك وشركاؤه في الصفقة باقي المبلغ مقابل حصولهم على حقوق ملكيّة المنصّة.
لكن أهم ما يعنينا الآن في هذه المسألة، هو أن كتلة القروض المستجدة، لمصلحة المصارف، لن تترتّب على ماسك أو شركاؤه بشكل مباشر، بل على تويتر نفسها، التي بات ماسك وشركاؤه مالكيها الفعليين. بمعنى آخر، وبمجرّد إتمام الصفقة خلال الشهر الماضي، ترتّب على منصّة تويتر دين إضافي بقيمة 13 مليار دولار.
عمليًّا، سيعني هذا الأمر أنّ إجمالي ديون شركة تويتر تضاعفت في لحظة واحدة، من 5.3 مليار دولار، كما كان الحال قبل الصفقة، إلى أكثر من 18.3 مليار دولار اليوم، بعد إضافة ديون صفقة شراء الشركة. ومنذ تلك اللحظة، بات على الشركة أن تسدد سنويًّا 1.2 مليار دولار من الفوائد، التي ستترتّب على ديون الصفقة.
وفوق كل ذلك، وبما أنّ نسبة الفائدة على هذه الديون متحرّكة، حسب نسب الفوائد الرائجة في السوق، من المرتقب أن ترتفع كلفة الفوائد بشكل مستمر خلال المرحلة المقبلة، بالتوازي مع قرارات زيادة الفوائد التي يتخذها اليوم الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
لا يوجد ما يغطي الديون والفوائد
حمّل ماسك كل هذه الديون والفوائد، لميزانيّة المنصّة الضعيفة مقارنة بهذه الإلتزامات الضخمة. فإيرادات الموقع التي قاربت حدود 5.08 مليار دولار خلال العام الماضي، لم تكن كافية لتغطية نفقاته خلال ذلك العام، ما جعل نتيجة العام خسارة صافية قدّرت بـ221 مليون دولار.
وخلال العام نفسه، لم تتجاوز الزيادة في عدد مشتركي الموقع حدود الستّة ملايين شخص، لتقتصر قاعدة المستخدمين الحاليين على نحو 217 مليون حساب، وهو ما يمثّل رقماً ضئيلاً للغاية مقارنة بكبرى مواقع التواصل الاجتماعي كفايسبوك وإنستغرام ويوتيوب وتيكتوك مثلًا (يسبق تويتر 12 منافسًا في أعداد المستخدمين). ومحدوديّة قاعدة المستخدمين، وضآلة زيادتها السنويّة، تعني تلقائيًّا عدم وجود أفق يسمح بزيادة مداخيل الإعلانات بشكل كبير خلال السنوات المقبلة، حتى لو ارتفع الطلب عليها.
مع الإشارة إلى أنّ المنصّة عانت من خسائر سنويّة متلاحقة خلال 10 سنوات من أصل السنوات 12 الماضية، ما يعني أن ضعف الأداء وهشاشة الميزانيّة وتسجيل الخسائر بات أزمة هيكليّة مزمنة تعاني منها الشركة، لا مجرّد نتيجة لظرف مؤقّت. بل في واقع الأمر، كانت أرقام العام الحالي تعكس المزيد من الخسائر، نتيجة الظروف المستجدة في جميع الاقتصادات العالميّة، ما زاد من مخاطر هذا الوضع.
ببساطة، لم يكن هناك ما يوحي بأن شركة بهذه الوضعيّة الضعيفة، ستكون قادرة على تسديد فوائد سنويّة ستتخطى قيمتها 1.2 مليار دولار، ناهيك عن أصل الديون البالغ 18.3 مليار دولار. ومن الناحية العمليّة، لولا هذه الفوائد والديون، كان من الممكن أن يراهن شخص ما على محاولة تحقيق ربحيّة متواضعة للشركة، بما يتناسب مع الحجم المحدود لميزانيّتها. إلا أن هذه الديون والفوائد الضخمة، الناتجة عن صفقة الاستحواذ، كانت أكبر من أن تتحمّلها الشركة بأرقامها الحاليّة، وخصوصًا بعد أن تم تحميل الميزانيّة أساسًا ضغوط الخسائر السابقة.
ماسك يغرق أكثر في رمال تويتر المتحرّكة
هكذا، بات إيلون ماسك محشورًا باللعبة التي تورّط بها، والتي ورّط فيها منصّة تويتر بالمديونيّة الجديدة وفوائدها. وهنا، لم يعد ماسك بحاجة لإعادة ربحيّة المنصّة فقط، وهذا تحدّي صعب جدًا بحد ذاته، بل بات بحاجة إلى جعلها تنتج ما يكفي من أرباح لسداد الدين الضخم وفوائده السنويّة، وهذا شبه مستحيل. ولعلّ هذه الصعوبات هي تحديدًا ما يفسّر مماطلة ماسك باستكمال صفقة الاستحواذ المتسرّعة وغير المدروسة، إلى أنّ اضطرّ إلى تنفيذها تحت وطأة دعوى قضائيّة كانت على وشك بلوغ مرحلة الحكم النهائي.
وبعد الوقوع في الورطة، باتت سمعة ماسك الشخصيّة كمستثمر على المحك. ثم بدأ منذ تلك اللحظة، تحت وطأة الخوف، باتخاذ القرارات المتسرّعة وغير المدروسة، والتي كانت تزيد من عمق أزمته، تمامًا كما يغرق العالق في الرمال المتحرّكة كلما حاول الخروج منها.
حاول افتعال صدمة إيجابيّة تجذب جمهور معيّن إلى المنصّة، عندما بدأ بالحديث عن إعادة حريّة التعبير إلى المنصّة. وبهذه الخطوة، أراد اجتذاب جمهور المحافظين الممتعضين من معايير مكافحة خطاب الكراهيّة، التي اعتمدتها تويتر قبل دخول ماسك إلى الساحة، والتي أفضت إلى إقصاء الكثير من رموزهم من المنصّة، كالرئيس الأميركي دونالد ترامب.
إلا أن ماسك أثار بذلك خشية جزء كبير من الرأي العام الأميركي من تحوّل تويتر إلى منصّة لترويج خطاب اليمين المتطرّف. ثم سرعان ما بدأت الشركات الكبرى تعلن تباعًا وقف إعلاناتها عبر تويتر، خوفًا من مخاطر السمعة، إلى حين تبيان نوايا صاحب المنصّة الجديد المزاجي. وهنا، بدا أن خطوة ماسك مسّت بآخر ما يمكن أن يراهن عليه لإنقاذ تويتر: عوائد سوق الإعلانات.
ثم ظنّ أنّه وجد اختراع القرن، عندما أتى بفكرة بيع علامات توثيق الحسابات مقابل 8 دولارات شهريًّا، وأجبر مهندسي الشركة على تطبيق الفكرة خلال فترة أيّام معدودة. وبعد دخول هذه الفكرة حيّز التنفيذ، تحوّل تويتر إلى نكتة في عالم شركات التكنولوجيا، بعد أن اشترت علامة التوثيق مئات الحسابات المنتحلة الشخصيّة، بما فيها تلك التي انتحلت شخصيّة إيلون ماسك نفسه! ومرّة جديدة، بدأت كبرى الشركات بالابتعاد عن الإعلان في تويتر، خوفًا من هذا النوع من الهفوات القاتلة، خصوصًا بعد أن تعرّضت شركات عديدة لخسائر ضخمة في سوق الأسهم، نتيجة إعلانات كاذبة صادرة عن حسابات انتحلت شخصيّتها.
القشّة التي قسمت ظهر البعير
أمّا القشّة التي قسمت ظهر البعير، فكانت تمرّد الموظّفين الأخير. فبعد تسريح نصف موظفي الشركة، وتخيير النصف الآخر بين العمل الشاق لساعات طويلة أو التسريح، قررت الغالبيّة الساحقة من الموظفين المتبقين رفض الخيار الأوّل، فيما تلقت إدارة الشركة مئات طلبات الاستقالة من أهم مهندسي وتقنيي الشركة. وفي الوقت الراهن، باتت معضلة الإدارة الأساسيّة إقناع الكادر التقني الأساسي بالبقاء في الشركة، فيما يبدو أن هؤلاء باتوا يبحثون عن سفن النجاة التي تبعدهم عن سفينة تويتر المقبلة على الغرق. وخلال الأيام المقبلة، سيكون التحدّي الأساسي أمام الشركة محاولة الاستمرار بالعمل، في ظل اعتكاف وتمرّد الجزء الأكبر من قوتها العاملة، وتسابق هؤلاء على الخروج من الشركة.
على هامش كل هذه الأحداث، أدركت المصارف التي موّلت صفقة الاستحواذ أنّها دخلت في لعبة غير محسوبة، وبدأت تحاول بيع محفظة القروض بنسبة حسم تتجاوز 40% من قيمة القرض. وعندما تصل المصارف إلى هذه المرحلة، فهذا يعني أنّها باتت تعامل قروض تويتر كقروض رديئة عالية المخاطر، ما سيمنع الشركة في المستقبل من الاقتراض مجددًا لتمويل سداد القرض الحالي أو فوائده. وبذلك، ستكون تويتر أمام أزمة سيولة عاجلًا أم آجلًا.
بكل هذه التطوّرات، دخلت تويتر النفق الذي لن تخرج منه بسهولة. قد يراهن البعض على ثروة ماسك الضخمة، التي تسمح له بالتدخّل من أمواله الخاصّة لإنقاذ الشركة. إلا أنّ ثروة ماسك بأغلبها مرتبطة اليوم بأسهم شركتي تسلا وسبايس أكس، وعرض جزء كبير من هذه الأسهم للبيع سيضرب قيمة أسهم الشركتين الناجحتين في السوق، ما سيضر بأعمالهما والمستثمرين فيهما، بل وبقيمة ثروة ماسك نفسها، المتمثّلة بالأسهم الباقية. مع الإشارة إلى أنّ ماسك باع أساسًا جزءاً من هذه الأسهم بشكل متدرّج خلال الأشهر الماضية، لتمويل صفقة شراء تويتر، ما سيضيّق اليوم من خياراته. وفي جميع الحالات، من غير المرتقب أن يكون ملياردير كإيلون ماسك مستعدًا للإنفاق والتضحية بثروته على مدى سنوات طويلة، لدفع فوائد ديون شركة متعثّرة، اشتراها في هفوة عابرة.