بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي في 16 ايار الماضي، بلغ الاقتصاد النقدي المدولر في معظمه (الكاش)، حوالى9.9 مليارات دولار في عام 2022، أي نحو نصف حجم الاقتصاد اللبناني. وهذا ما يعتبره البنك عائقاً كبيراً أمام تحقيق التعافي الاقتصادي. هذا الواقع «غير الصحي» الذي يعيشه الاقتصاد اللبناني، لم يمنع اللبنانيين من التكيف معه والتطبيع النسبي مع الازمة بالرغم من عدم تنفيذ اي اصلاحات مطلوبة من المجمتع الدولي وصندوق النقد، والدليل هو حالة القبول السلبي التي يبدونها تجاه الشلل وعدم المبالاة التي تمارسها المنظومة السياسية تجاه الانهيار القائم.
هذا المسار التطبيعي، يدفع الى التساؤل عما اذا كان اقتصاد الكاش يعود بالفائدة على فئة من اللبنانيين، ويساهم في خروجها من تصنيف «الفئات الفقيرة» الذي اطلقته «الاسكوا» على 80 بالمئة من الشعب اللبناني جراء تداعيات الازمة. المنطق الذي يقف وراء هذا التساؤل أن لبنان شهد على مدى 4 سنوات من الازمة ظهور حركة ما، وحصل تكيف من قبل مؤسسات القطاع الخاص مع الضغوط التي ولدها الانهيار، من خلال دولرة الرواتب وعدم الافصاح عن جزء اساسي منها لوزارة المالية، ما يعني أنها تصب كاملة في جيوب مستحقيها من دون دفع ضرائب، وتساهم في خلق دورة اقتصادية في عدد من المهن والقطاعات، وتؤدي الى استقرار»نسبي» ظاهري في أوضاعهم المادية. علماً ان تقرير البنك الدولي يؤكد «تباطؤ وتيرة التراجع الاقتصادي في لبنان في عام 2022. وتشير التقديرات إلى انخفاض إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 2.6 بالمئة في عام 2022، ليصل إجمالي الانكماش الاقتصادي منذ عام 2018 إلى 39.9 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي». فهل يمكن القول أن اقتصاد الكاش افاد شرائح لم يعد ممكناً احتسابها ضمن فئة الفقراء؟
شماس: عمليات بأموال لا رقابة على مصادرها
يشرح الخبير الاقتصادي غسان شماس لـ»نداء الوطن» أن «اقتصاد الكاش لا علاقة له بالطبقة الميسورة أو الفقيرة في لبنان، بل يعني عدم اجراء عمليات مالية عبر البنوك، وهنا لا بد من الاشارة الى أن الاكثر فقراً لا يتعاطون في الاساس مع العمليات المصرفية، وغالباً ما كانت علاقتهم مع المصارف تقتصر على حساب توفيري يضعون فيه أموالهم».
يضيف: «تأثير اقتصاد الكاش في لبنان هو أنه «يحمّي الاقتصاد»، أي أنه يسهل عمليات البيع والشراء من دون رقابة على مصادرها، وهذا لا يؤثر على الافراد الاقل حظوة بالاقتصاد اللبناني، لأنهم في الاساس كانوا يتعاطون بالكاش وعملياتهم المصرفية محدودة جداً. كما أن اقتصاد الكاش يسمح بالتلاعب بسعر صرف الليرة مقابل الدولار وهذا يؤثر جدا على الفقراء، لجهة عدم امكانية ضبط الاسعار».
نعمة: من يستفيد أكثر هم جماعة المنظومة
من جهته يوضح الخبير والمستشار في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر أديب نعمة لـ»نداء الوطن» أن «نسبة الفقر في لبنان 80 بالمئة. وهذا الرقم استخلصه تقرير دائرة الاحصاء المركزي من توزيع الدخل في العام 2022 مقارنة مع العام 2019، اي ان الفئة التي دخلها اقل من الحد الادنى للأجور 450 الف ليرة (في العام 2019) صارت تقريبا بين 75 و80 بالمئة»، مشدداً على أن «هذا لا ينطبق على كل التصنيف السابق للبنك الدولي بأن هناك فئات من الشعب اللبناني تحت خط الفقر وفئة أخرى أفضل حالاً، لأننا بتنا اليوم في ظل عملية افقار شاملة، وفي ظل الانهيار الحاصل وغياب القانون يحاول الشعب اللبناني والمؤسسات الخاصة التكيف مع الوضع، وما يحصل من تحولات في الاقتصاد هو في التعاملات المالية التي كانت تتم عبر المصارف والمؤسسات، اليوم توقفت بسبب فقدان المصارف دورها ومن الطبيعي ان يحل مكانها اقتصاد الكاش».
يشير نعمة الى أنه «في لبنان كان هناك عمل نظامي، وآخر غير نظامي بنسبة 55 بالمئة (قبل الازمة) واليوم صار نحو 62 بالمئة، وما يحصل هو جزء من عملية الانتقال من الانتظام المالي الى الفوضى. وهذا مقصود من قبل المنظومة السياسية للقول أن اطلاق منصة صيرفة وتعاميم مصرف لبنان جاءت للقول ان هذه الاجراءات خففت من الفقر ووسعت دائرة المستفيدين»، مشدداً على «أننا في الحقيقة نعيش انهياراً عاماً في الوضع المعيشي للناس، مع فرق ان هناك استقراراً في سعر دولار السوق السوداء ولم نعد نشهد في الاشهر الاخيرة تقلبات حادة يومية في سعره». وبحسب تقديرات البنك الدولي هناك ملياران ونصف ذهبت أرباحاً من صيرفة للمضاربين وازلام السياسيين وليس للفئات المسحوقة من الشعب اللبناني.
يضيف: «هذا لا يعني أننا لسنا سائرين نحو انفجار وانهيار مالي سيئ جداً، لأن الاجراءات الحاصلة هي لاخفاء معالم المشكلة من دون حلها، وبحسب ارقام التدقيق الجنائي وبالنظر الى من استفاد من صيرفة ودعم المواد الغذائية والمحروقات، هم كبار التجار والمصرفيون السياسيون وأزلامهم، وانخفض الاحتياطي في المصرف المركزي من 30 مليار دولار اول الازمة الى نحو 7.5 مليارات دولار حاليا»، موضحاً أن «23 مليار دولار من ثروة الشعب اللبناني تبخرت على يد هذه المنظومة. وما يحصل اليوم من استقرار في الدخل اللبناني (على نمط التقشف والفقر) هو بفعل استقرار في العمليات المالية والاسعار في السوق، وليس لأن الفقراء استفادوا من اقتصاد الكاش والدولرة، وكل ذلك بتعمد من قبل المنظومة وبطريقة خبيثة واجرامية منها لمنع الانفجار».
ويؤكد نعمة أن «ما يحصل هو تعاقب احداث لإلهاء الناس عن المشكلة الاساسية واختراع مشاكل مثل الحريات الفردية والشخصية، وكل هذه هي من الادوات التي تتبعها المنظومة للسيطرة على الناس. حاليا يعيش اللبنانيون في مستوى شبه منعدم من القانون، وتحاول المنظومة تعويدهم على العيش من دون دولة او قانون او حريات شخصية «.
ويختم: «الطبقة السياسية وأزلامها سرقوا المال العام ومن ثم نهبوا المال الخاص (الودائع )، وما يحصل في لبنان هو كمن يعيش في جهنم مع القليل من فترات الراحة «.