تعلّم رياض سلامة النفخ قبل السلخ. عندما سئل عن موقف إدمون نعيم من تمويل الدولة خلافاً لما قام به هو بإفراط، قال إن ظروف نعيم كانت أصعب في ظل حكومتين، وإنه يقدر إدمون نعيم ولا يقارن نفسه به، لكن «القصّة على علاقة بفاتورة باسبورات لا تمويل دولة».
لكن ما نقله نائب الحاكم في أيام نعيم، الدكتور غسان العيش يشير إلى العكس تماماً. فهو يقول إن نعيم ابتعد كلياً عن العلاقات الخاصة مع رجال السياسة وأصحاب المصالح، حتى إنه لم يكن يقبل الولائم والدعوات، وكان «يكره معظم رجال السياسة».
وأوضح العياش أن نعيم «أوقف عقود تسليف الدولة لأنها تطلق يد الحكومة في إنفاق الأموال المستلفة… وفي الشأن المالي جعل إدمون نعيم مصرف لبنان سلطة فوق الدولة بدلاً من أن يكون خاضعاً لها».
يتحدث العياش عن أن الدولة كانت لديها نفقات غير مجدية، وأن سياسة مصرف لبنان كانت تقضي «بعدم تأدية مدفوعات الدولة بسهولة»… واستمرّ الأمر إلى أن انفجر في قصّة الباسبورات المشهورة وأرسلت «الدولة» عصاباتها الرسمية للاقتصاص من نعيم في مكتبه. حتى إن الرواية تقول إنه تلقّى اتصالاً هاتفياً من الرئيس الياس الهراوي فخرج من جلسة المجلس المركزي ليجد «الفخّ».
الفرق بين نعيم وسلامة، أن الأول كان يقارع الدولة بشهادة العياش ومحاضر المجلس المركزي التي نشرها عن تلك المدة. أما سلامة، فقد جلس نحو ثلاثة عقود على كرسي حاكمية مصرف لبنان، وتمتع بكل مزايا هذا العمل، ثم قدّم خدمات التمويل لـ«استمرار النموذج» كما قال هو بنفسه، وأصدر الكثير من القرارات التي كانت تستند إلى المادة 70 التي تأتي في قسم «المهمة العامة للمصرف» والتي تمنحه صلاحيات استنسابية هائلة مثل المحافظة على سلامة النقد اللبناني، المحافظة على الاستقرار الاقتصادي، المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي، تطوير السوق النقدية والمالية»، ثم يقول إنه يتمسّك بحرفية المادة 91 وإنها تجبره على القبول بإقراض الدولة. إذا «أصرّت»، فهل تفرض عليه ذلك؟
في الواقع، لا يمكن فهم المادة 91 من دون المواد 88 و89 و90. فالمادة 90 تقول إن المبدأ ألا يمنح المصرف المركزي قروضاً للقطاع العام باستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عليها في المادتين 88 و89، ثم تحدّد المادة 91 الإقراض الذي «لا يكون إلا في ظروف استثنائية مثل الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى»، كذلك تشير إلى أنه يفترض بالمصرف المركزي أن يدرس مع الحكومة إمكانية استبدال مساعدته بوسائل أخرى «وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنه لا يوجد أي حلّ آخر، وإذا ما أصرّت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن للمصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب». والكلام هنا واضح، فالأمر «ممكن» للمصرف المركزي وليس واجباً، وذلك بعد إجراءات واقتراحات، ويكون الأمر عبارة عن قرض، لا تسهيلات يومية بالجملة والمفرّق.
تناقض موقف سلامة مع الواقع القانوني، لا يبرّره سوى الفعل العملي والمثبت بالأرقام، وهو أن مصرف لبنان كان يموّل الدولة؛ ففي عام 2008 كانت حصّة مصرف لبنان من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية 22%، ثم ارتفعت إلى 44% في 2016 وبلغت 50% في 2018. وكان ارتفاع حصّة مصرف لبنان مقابل انخفاض حصّة المصارف رغم الزيادة المضطردة في الدين العام، تموّل عبر استقطاب مصرف لبنان للتمويل بواسطة المصارف. كانت الفوائد على شهادات الإيداع التي يصدرها مصرف لبنان أعلى بنقطتين أو ثلاثة من سندات الخزينة، لذا كانت المصارف تكتتب لدى مصرف لبنان وهو يكتتب بسندات الخزينة.



