إلغاء رسم 2% على الإستيراد سيؤدّي إلى إنفجار أزمة عملة

أظهر بحث مشروع موازنة العام 2019، أنّ تخفيض العجز الذي حققتّه الحكومة اللبنانية ناتج بالدرجة الأولى عن ثلاثة بنود من بينها رسم الـ 2 في المئة على الاستيراد. وإلغاء هذا البند هو بمثابة خلق أزمة ميزان مدفوعات ستؤدّي حكماً إلى ضرب الليرة اللبنانية.

يُشكّل ميزان المدفوعات حالة خاصة في عالم الإقتصاد من ناحية أنه يُشكّل نقطة الوصل بين البيئة الإقتصادية (النشاط الإقتصادي)، البيئة المالية (مالية الدوّلة) والبيئة النقدية (العملة).

في المطلق يتمّ إحتساب ميزان المدفوعات من خلال ثلاثة معطيات إقتصادية: الميزان التجاري، حساب المداخيل (ديون وإستثمارات)، وحساب التحاويل. ويُمكن إختصار المعادلة على الشكل التالي: الميزان التجاري + حساب رؤوس الأموال + حساب التحاويل = صفر (كتابة مزدوجة للعمليات). في الواقع إن عجزاً في ميزان المدفوعات يعني أنّ البلد يعيش فوق مستوى قدراته، في حين أن الفائض يعني أن البلد يعيش تحت مستوى قدراته.

إذاً يظهر ممّا سبق أن كل بلد له قدرة أو حاجة للتمويل تظهر جلياً في ميزان المدفوعات الذي يُمثلّ المساحة التي تُترجم عليها السياسات المُتّبعة في البيئات الثلاث الآنفة الذكر. فمثلاً، إذا كانت الماكينة الإقتصادية لدولة ذات إقتصاد مفتوح (حالة لبنان) ضعيفة، فهذا يعني أنّ البلد يستورد أكثر ممّا يُصدّر أي بمعنى أخر أنّ الطلب على الدولار الأميركي (عملة التجارة الدوّلية) أعلى من الطلب على العملة المحلّية ما يعني زيادة الضغط على العملة المحلية. ولا يخفى على أحد أن بلداً يُعاني من عجز كبير في ميزان المدفوعات مدعوّ بشكل جدّي إلى فرض إجراءات للحدّ من الإستيراد (سياسة حمائية – ترامب) وتحفيز بقاء رؤوس الأموال فيه (رفع الفوائد – سلامة).

يعيش لبنان حالة من العجز المُزمن في ميزان مدفوعاته ويعود السبب بالدرجة الأولى إلى العجز في الميزان التجاري والذي يُسجّل أرقاماً قياسية أصبحت تُشكّل خطراً على الكيان اللبناني برمّته. نعم عجز الميزان التجاري أصبح يُشكّل خطراً كيانياً لأنه كما قلنا أعلاه إنّ ميزان المدفوعات هو مُلتقى السياسة المالية والنقدية ويؤثّر عليهما وتعتمده وكالات التصنيف في تقييمها التصنيفي للدول، كما أنّ له تأثيراً على الإستثمارات، والفوائد والليرة اللبنانية. في الواقع إنه المعيار الأول الذي يُظهر متانة الإقتصاد والمالية العامة والنقد في البلد المعني.

يُسجّل الميزان التجاري في لبنان عجزاً مزمناً وذلك من نشأة الدولة اللبنانية. ففي العام 1962، كانت الصادرات تُشكّل 51.2% من الواردات لتصل إلى 60.7% في العام 1973 وتعاود معها الإنخفاض إلى أقلّ من 20% أيام الحرب وتستقرّ حالياً حول 18%.

في الواقع لم تكن لعجز الميزان التجاري قبل الألفية الحالية تداعيات كارثية نظراً إلى الحجم الصغير للإستيراد والتصدير، وانّ هذا العجز كان يتمّ تصفيره من خلال حساب رؤوس الأموال وحساب التحاويل. إلّا أنّ الأبعاد التي أخذها الإستيراد في الأعوام التي تلت عدوان تمّوز أصبح تأثيرها على ميزان المدفوعات أكثر ظهوراً لترتفع إلى مستويات كارثية منذ بدء الأزمة السورية.

النظرية الإقتصادية تنصّ على أنّ البلد الذي يُسجّل عجزاً في حسابه الجاري (ميزان تجاري + مداخيل الإستثمارات + تحاويل) يؤدّي حكماً إلى ارتفاع دينه العام أو ازدياد ملكية الأجانب لأصوله. وإذا كان بعض الباحثين يؤكدّ على أنّ عجز ميزان المدفوعات لا يجب أن يؤدّي إلى إعتماد سياسات حمائية إلّا أنّ الغالبية ترى في أنّ عجز ميزان مدفوعات كبير (نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي) هو خطر فعلي ويُبرّر أيّ سياسية بما فيها الحمائية.

الهندسة المالية التي قام بها مصرف لبنان في العام 2016 أدّت إلى جذب رؤوس أموال وزيادة إحتياط المصرف من العملات الأجنبية (أنظر إلى الرسم). هذه الهندسة التي بدّلت قيمة ميزان المدفوعات من عجز بقيمة 3.35 مليارات دولار أميركي في العام 2015 إلى فائض بقيمة 1.15 مليار دولار أميركي في العام 2016، سمحت للبنان بتفادي كارثة مالية ونقدية بإعتراف صندوق النقد الدولي. لكن هذه الهندسة هي عملية جراحية ولا تُصحّح خلّلاً آتياً بالأساس من عجز السياسة الإقتصادية للحكومة والتي لم تُشجّع ولم تؤسّس لإقتصاد منتج يعتمد فيه على القطاع الأولي والثانوي. حتى إنّ البنك الدولي في تقريره في 15 تشرين الأول شدّد على أنّ الحكومة اللبنانية عجزت عن توجيه القطاع الخاص للإستثمار في قطاعات ذات قيمة مضافة عالية في الإقتصاد خلال أعوام المجد أي 2007 إلى 2010.

هل دخلنا أزمة ميزان مدفوعات؟ الجواب بكلّ بساطة كلا وذلك بحكم أنّ هناك ثلاثة أمور يجب أن تحصل لتصنيف أزمة بأزمة ميزان مدفوعات: (1) عجز البلد عن دفع إستيراده بالعملات الأجنبية، (2) عجز البلد عن دفع إستحقاقات دينه العام الخارجي، و(3) سحب إيداعات المُستثمرين الأجانب الذين يخشون مستوى الدين العام. توافر هذه الشروط الثلاثة يعني أنّ البلد تعصف به أزمة ميزان مدفوعات أي بكلّ بساطة «أزمة عمّلة»! لكن في حالة لبنان هذه الشروط غير متوفّرة حتى الساعة نظراً إلى الإجراءات التي إتّخذها مصرف لبنان. هذا الأخير إستنزف الكثير من قواه في دعم خزينة الدولة ما دفع بصندوق النقد الدولي إلى دعوته إلى الانسحاب من سوق سندات الخزينة اللبنانية.

تصحيح الخلل في ميزان المدفوعات يعتمد على طرق عدّة وعلى رأسها السياسة الحمائية التي حتى المعاهدات التجارية الدولية تسمح فيها عند وجود خلل مُزمن في ميزان المدفوعات. في الواقع بعض من أصحاب النفوذ والمُستفدين من غياب الرسوم على الإستيراد، إستطاعوا الضغط على لجنة المال والموازنة التي علّقت البند بإنتظار إقتراح خيّاط على قياس أصحاب النفوذ ضاربين بعرض الحائط المصلحة العليا للكيان اللبناني ومتحجّجين مثل الكثير من الذين يدّعون المعرفة، أنّ رسم 2% على الإستيراد هو ضريبة على المواطن!

باعتقادنا أن ّعدم إقرار رسم على الإستيراد سيؤدّي إلى كوارث فعلية وسيُحمّل التاريخ هذه المسؤولية لنواب الأمّة والحكومة، لأنّ الدخول في أزمة ميزان مدفوعات يعني ضرب العملة، أي كارثة إجتماعية مع أكثر من 750 ألف موظّف يقبضون رواتبهم بالليرة اللبنانية ولكن أيضاً هروب الشركات من لبنان وسحب رؤوس الأموال من المصارف… سيناريو كارثي.

بواسطةبروفسور جاسم عجاقة
مصدرالجمهورية
المادة السابقةالحريري ينشر صورة لإبنته “لولوة”.. ويعلق
المقالة القادمةكريدية: الوضع في أوجيرو مستقر وعدد مشتركي الإنترنت في زيادة مستمرة