تواجه الصناعة البتروليّة في لبنان تحديّات كبيرة حتى قبل البدء بعملية الإنتاج المؤجّلة إلى حين الإنتهاء من مرحلة الإستكشاف وتطوير الحقول، فلبنان يسعى إلى التخفيف من الإعتماد على المحروقات السائلة في مقابل توجّهه من أجل إستبداله بالغاز الطبيعي لإنتاج الطاقة لا سيّما الكهرباء. إذ من المتوقّع أن يتم إدخال الغاز الطبيعي المسال (LNG) لأول مرة إلى السوق اللبنانية من خلال المحطات العائمة للتخزين وإعادة تحويل الغاز. وبالتأكيد، سوف يكون لهذا التوجه دور كبير في تخفيض كلفة إنتاج الكهرباء من خلال تحويل المعامل الموجودة حالياً عن استعمال الفيول الثقيل إلى استعمال الغاز الطبيعي الأقل كلفة. كما وزيادة فعاليّة الطاقة المنتجة من خلال بناء معامل إنتاج حديثة تعمل على الغاز الطبيعي الأمر الذي يساهم بشكل فعّال في تخفيف نسب التلوّث. فما هي الخيارات المتاحة؟
في سياق إستطلاع الآراء التقنيّة، أوضح أحد الخبراء في مجال الطاقة عبر «نداء الوطن» «أن الحاجة الكبيرة ستكون في الكهرباء. فسوق الغاز في لبنان ستتمحور حول قطاعي الكهرباء والنقل كما وفي بعض الصناعات التي تحتاج للغاز الطبيعي مثل الأفران، ومعامل الترابة، ومعامل الحديد…».
نزف بالمليارات
يعتمد لبنان حالياً على المحروقات السائلة لإنتاج الكهرباء مع العجز المتزايد في تأمين الطاقة الكهربائيّة 24/24 والزيادة في الطلب على الإستهلاك نتيجة زيادة عدد السكّان. لذلك أصبح من الضروري اللجوء إلى تخفيض الأعباء على الخزينة العامّة باعتبار أن العجز الناتج عن قطاع الكهرباء يكلّف حوالى الملياري دولار سنوياً، بحيث سيساهم الإستبدال التدريجي للمحروقات بالغاز الطبيعي في تأمين إستجرار الطاقة الكهربائيّة بأسعار أقل نسبياً وبأقل أثر بيئي ممكن.
هل المعامل مجهزة؟
في هذا المجال يوضح الخبير «أن المعامل الكبيرة في لبنان المتمثلة بمعملي الزهراني ودير عمار مجهزة لإستقبال الغاز فكل معمل يمنح ما يقارب 450 ميغاواطاً، فهذه المعامل هي بالأساس معامل غازية لكن تمّ تشغيلها على الديزل (وهو الفيول الأغلى). بالإضافة إلى ذلك هناك معملا الجية والذوق القديم (المعروف بمعمل الذوق الحراري) وهما مجهزان للتشغيل على الفيول الثقيل (Heavy Fuel) فتحويلهما للعمل على الغاز يحتاج تعديلات كبيرة ولن تكون بطبيعة الحال فعّالة بإعتبار أن المحطتين بتكنولوجيا قديمة».
من جهة أخرى يشدد الأخصائي في النفط والغاز عبود زهر على هذا المسار ويعتبر عبر «نداء الوطن» «أن معمل البداوي حالياً جاهز للعمل على الغاز، وفي هذا الإطار لدينا الوقت الكافي لذلك قبل البدء بإنتاج الغاز من البحر اللبناني، فهذا الأمر بتقديري يحتاج من ثماني إلى عشر سنوات. فإلى ذلك الحين من المفترض أن تكون كل هذه الأمور محلولة (باستجرار الغاز)».
إستحداث معملين جديدين
يشير الخبير إلى أنه «في العام 2016، تم استحداث معملين جديدين في الذوق والجية يعملان على المحركات العكسيّة، الذوق بقدرة 194 ميغاواطاً والجية بقدرة 78 ميغاواطاً. فعند تشييد هذين المعملين قامت وزارة الطاقة بشراء معدات لتحويل المولدات للعمل على الغاز (وهي قطع غيار يتم تركيبها على المولدات لتصبح صالحة لإستخدام الفيول والغاز على حد سواء). فلكي يصبح لدى هذين المعملين القدرة على العمل على الغاز، يجب تركيب معدات التحويل تلك، وهذا يتطلّب إستثماراً كبيراً وإيقاف المحطة لفترة معينة».
هل المعامل الموجودة كافية؟
ويضيف الخبير في مجال الطاقة لـ «نداء الوطن»، «بكل الأحوال كمية الإنتاج المتوقعة في لبنان غير كافية لتغطية كامل الطلب على الكهرباء حتى لو كانت المعامل المذكورة مشغلة بوضع سليم، إذ إن تلك المعامل كفيلة بتأمين حوالى 2000 ميغاواط إلا أن لبنان بحاجة لإنتاج كمية أكبر من هذه. وفي هذا المجال هناك العديد من الدراسات التي قامت بها مؤسسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة والمياه بالتنسيق مع عدّة شركات إستشارية حول كميّة الطلب وكمية الزيادة بالإنتاج التي يحتاجها لبنان. فحتى لو تم تعديل المعامل وعملت على الغاز لن يكفي ذلك لتغطية كامل الطلب على الكهرباء، فلبنان بحاجة لبناء معامل أخرى جديدة».
شبكة غاز محلية
صعوبات كثيرة تواجه البدء بتنفيذ هذا التوجّه لعلّ أهمّها غياب البنى التحتيّة اللازمة لإستقبال الغاز الطبيعي وتوزيعه، الأمر الذي يستوجب العمل على تأمين تلك البنى المناسبة لمواكبة هذه التطوّرات كأولوية ملحّة. وفي هذا الإطار اكد زهر أنه «بالطبع يجب على الدولة اللبنانية تأمين البنى التحتية اللازمة وعلى رأسها بناء شبكة غاز محلية على طول الساحل اللبناني من الزهراني وصولاً إلى دير عمار، فهذه الخطة التي وافقت عليها الحكومة اللبنانية لا تزال على الورق بدون تنفيذ».
بانتظار بدء الإنتاج
ورداً على سؤال حول ما إذا كان من الأجدى شراء الغاز من الخارج وتشغيل معامل الكهرباء على أن تبقى في الوضع الحالي على الفيول، أكّد «زهر» «بالتأكيد، فمشروع إستجرار الغاز من مصر توقف بسبب الظروف السياسية والعقوبات المفروضة على سوريا بفعل قانون قيصر، فخط الغاز العربي مهم في هذا المجال. لكن وبانتظار البدء بإنتاج الغاز في لبنان تكمن الفكرة الأفضل والأرخص في استيراد الكهرباء من معامل مصر مباشرة عبر كابلات في البحر وذلك بدل استيراد الغاز، فهذا الحل هو الأنسب حالياً كونه لا يخضع للعقوبات ولا يحتاج لإستثمارات كبيرة».
وتابع «الأفضل من ذلك إذا تمكن لبنان من إستقدام الـ (Green Electricity) عبر كابلات في البحر وهي كهرباء مولدة مباشرة من الحقول التي تعمل على الطاقة الشمسية في مصر. فهذا التوجه تسير به أوروبا حالياً من خلال وصل كابلات كهرباء في البحر تربط إسرائيل بقبرص واليونان، كذلك فإن ألمانيا وإنكلترا وهولندا أيضاً تستقدم كابلات كهرباء من النروج التي تقوم بتوليد الكهرباء على المياه».
إستجرار الغاز
وفي هذا الإطار أوضحت مصادر متابعة لـ «نداء الوطن» أنه «على المدى القصير في حال قرّر لبنان إستيراد الغاز، فإن شــركة كهرباء لبنان سـوف تكون المســتهلك الوحيد للغاز الطبيعي مع ضرورة العمل والسعي من أجل وضع الخطط والإستراتيجيات اللازمة لإشـراك القطاع الخاص فــي قطاع الكهرباء عبــر منتجي الطاقــة المستقلّين. على أن يتم ذلك عبر إستيراد الغاز المسال وإيصاله إلى المرافئ المجهزة لإستقباله، حيث يتم ضخّه في أنابيب خط الغاز الساحلي الممتد من الجنوب إلى الشمال ومن ثم إرساله عبر الأنابيب إلى معامل الإنتاج أو إيصاله إلى مرافئ معامل الكهرباء مباشرة. وذلك، إلى حين البدء بإنتاج الغاز الطبيعي اللبناني من الحقول البحريّة التي سوف تضمن الإكتفاء الذاتي للبنان وتؤمّن التصدير للفائض».
التوجّه نحو الطاقة المتجددة
بحسب المصادر المطلعة، فإن التحدي الآخر الذي يواجه لبنان هو أن سوق الغاز المحلي صغير. فاستخدامات الغاز ضاقت قليلاً بفعل التوجه نحو الطاقة المتجددة بحيث أصبح لدينا حوالى الألف ميغاواط طاقة شمسية في لبنان. لذلك فالطلب على الغاز اليوم لم يعد كما كان في السنوات الماضية، فهو في تراجع مستمر.
أما بحسب زهر فإن «ثروة لبنان بالشمس أكبر بكثير من ثروته بالغاز، فإذا أقدم لبنان على بناء محطات تعمل على الطاقة الشمسية في مختلف الأراضي اللبنانية فهو لن يحتاج إلى معامل جديدة. فحالياً يقوم لبنان بإنتاج حوالي 1600 ميغاواط من معامل الكهرباء، وبحسب المختصين تشير المعلومات إلى أن لبنان إستطاع تأمين حوالي 1000 ميغاواط من الطاقة الشمسية (مبادرات فردية) أي أكثر من 60% من القدرة الإنتاجية الحالية لمعامل الكهرباء. وبسهولة يمكن للدولة رفع النسبة إلى 80 و90% بفترة قصيرة فهي تحتاج لحوالي ستة أشهر لتكون جاهزة لتوليد الكهرباء وإستثماراتها معقولة جداً لجهة الكلفة».
مجلس أعلى للطاقة
إن مجمل هذه الأمور تعتمد على كميّة ونوعيّة المواد الهيدروكاربونيّة القابلة للإستخراج وبالتالي تعتمد على دراسة الجدوى الإقتصاديّة لهذه المواد، بعد إتمام أعمال الحفر وتطوير الحقول في البلوكات البحريّة، لا سيّما في البلوكين 4 و9. كذلك فهي تعتمد على حسن إدارة هذه المواد من خلال الترفّع عن الدخول في متاهة المصالح الفئويّة المتضاربة وفي متاهة الخلافات السياسيّة الداخليّة، من خلال التطلّع إلى إعتبار هذه الثروة الوطنيّة ملكاً لجميع اللبنانيّين بمختلف مكوناتهم، وسبيلاً للنهوض من الأزمات الإقتصاديّة والماليّة والإجتماعيّة الضاغطة.
من هنا تشير المصادر إلى «ضرورة صياغة خطة طاقويّة شاملة للبلد تأخذ بالإعتبار التحديات والتطورات المختلفة للقطاع على المستويين الداخلي والخارجي وتعتمد على نظام حوكمة واضح وشفّاف. على أن تبدأ بإنشاء مجلس أعلى للطاقة مهمّته رسم سياسات الطاقة المستقبليّة ومراقبة تنفيذها. كما تبرز ضرورة تحديث المنظومة القانونيّة الحاليّة الخاصّة بقطاع الكهرباء، وجعلها أكثر مرونة من خلال تعزيز دور الإدارة المسؤولة كهيئة ناظمة قويّة، فضلاً عن تعزيز مجالات الإستثمار المرتبطة بهذا القطاع الحيوي من خلال تأمين الشراكة بين القطاعين العام والخاص».
خسارة كبيرة
«إن استخدام الغاز المستخرج من البحر لإنتاج الكهرباء في لبنان يعتبر خسارة كبيرة في ظل الوضع الحالي» بحسب الخبير. «ففي حال لم يتم إعادة هيكلة قطاع الكهرباء وإجراء الإصلاحات المطلوبة لن يتحقق النجاح بسبب الهدر الفني (إن كان على الشبكة أو في المعامل غير الفعالة والقديمة) والهدر غير الفني الموجود (المتمثل بالسرقة والتعليق على الشبكة). لذلك، وفي ظل وجود كل هذه المعطيات، يصبح من الأفضل بيع الغاز إلى الخارج والحصول على مردود مالي على إستخدامه لإنتاج الكهرباء في لبنان».
70% من إنتاج كهرباء إسرائيل على الغاز
يمكن القول أن إسرائيل باتت تشكل قوة أساسية على صعيد الطاقة في المنطقة، وذلك بعدما ساهمت إكتشافاتها البترولية في العقد الأخير في تأمين إكتفائها الذاتي من الغاز الطبيعي في السوق المحليّة بالإضافة إلى تأمين فرص مربحة لتصدير الفائض منه. وأصبح الغاز الطبيعي يوفّر أكثر من 70% من الكهرباء في إسرائيل، وفي هذا الإطار فقد أوردت وكالات الأنباء بتاريخ 14 آب 2023، أن وزارة الطاقة الإسرائيلية أعلنت عن موافقتها على تحويل وحدتين من إحدى محطات الكهرباء في إسرائيل تعمل بالفحم إلى الغاز الطبيعي، وذلك في إطار خطتها لإنهاء الإعتماد على الفحم في تشغيل محطات الكهرباء بحلول العام 2026.
فهل سيستطيع لبنان الإستفادة من ثروته البترولية كما فعلت إسرائيل؟ أم أن التحديات المختلفة ستحوّل هذه الثروة إلى نقمة؟
لبنان تأخّر كثيراً
يعتبر عبود زهر أن «الإجراءات تأخذ وقتها. فإسرائيل إحتاجت إلى حوالى العشر سنوات للبدء بالإنتاج، فهي سبقت لبنان بخمس عشرة سنة، بحيث أدت عوامل عديدة ساهمت بتأخر مسار القطاع في لبنان كان أهمها تعليق إصدار المراسيم التطبيقية الخاصة لسنوات بفعل الخلافات السياسية الداخلية. إن أقل إكتشاف في لبنان كفيل بتسديد حاجات السوق المحلية لمدة عشرين سنة على الأقل، أما إذا كانت الإكتشافات أكبر فهي كفيلة بتحقيق الإكتفاء الذاتي لمدة خمسين سنة على الأقل». فالمهم إذاً هو تحقيق إكتشاف تجاري كما هي الحال في إسرائيل التي شهدت نهضة كبيرة على صعيد إكتشافات الغاز الطبيعي في البحر، إذ تعتبر منطقة شرقي البحر المتوسط منطقة جيولوجية متقاربة.