دخل استحقاق حاكمية مصرف لبنان البازار السياسي كباقي الاستحقاقات، وأدخل معه ملف صيرفة باعتباره العصا التي يلوّح بها البعض لتسجيل نقاط في مرمى الخصوم، فيما واقع الحال لا يشي بتغييرات في سدة حاكمية مصرف لبنان. أما منصة صيرفة التي يصوّرها البعض على أنها الحل السحري لاستقرار الدولار فلا تتجاوز كونها “مزراب” للدولارات يُنفق مصرف لبنان من خلالها المليارات ليشتري بها الوهم المتمثّل باستقرار سعر الصرف.
مماطلة متعمّدة
على الرغم من بدء العد العكسي لولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نهاية شهر تموز الحالي، تناور القوى السياسية لضمان استمرارية سلامة على رأس السلطة النقدية. فلا أسماء مطروحة جدّياً لتولي منصب حاكمية مصرف لبنان، علماً أن نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة سحبوا أيديهم في بيانهم الأخير، وتخلّوا عن مسؤولياتهم المنوطة بهم بموجب قانون النقد والتسليف، فيما لو فرغ كرسي حاكم مصرف لبنان.
يربط معظم الأفرقاء السياسيين تحذيراتهم من مغبة الشغور في حاكمية مصرف لبنان، بتعليق عمل منصة صيرفة، باعتبارها موضوعاً خلافياً بين الحاكم ونوابه. يصوّرون المنصة على أنها الرادع الوحيد لانفلات سعر صرف الدولار، وهي التي يستفيد منها المتمولون والتجار والمحظيون من مدراء المصارف والصرافين.
وإذا صدقت التكهنات بأن نواب الحاكم يعارضون منصة صيرفة، فلماذا لا يتحمّلون مسؤولياتهم في وضع آلية جديدة لعمل المنصة، أو ربما الاستمرار بها ريثما يتم وضع خطة بديلة للخروج التدريجي من صيغتها الحالية؟ من هنا يتّضح أن الربط المباشر بين انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان والتهويل بتوقف صيرفة بشكل مفاجئ، يساهم بشكل أو بآخر بالدفع في اتجاه التمديد لسلامة وإبقاء المنصة على ما هي عليه حالياً.
كلفة الاستقرار الوهمي
ولا يظنن أحد أن تكلفة استقرار سعر صرف الدولار عند مستوياته الحالية دون 100 ألف ليرة، تكلفة زهيدة. فمصرف لبنان يستنزف احتياطاته بالعملات الأجنبية. وقد ضخّ مليارات الدولارات على مدار الأشهر القليلة الماضية، لم تُعرف وجهتها. فآلية عمل منصة صيرفة غير واضحة وغير موثوقة وقد نالها من انتقادات المؤسسات الدولية ما يكفي لتعديل آلية عملها، وتوجيهها في اتجاه توحيد أسعار الدولار في السوق من دون جدوى.
ومنذ إطلاق منصة صيرفة في شهر أيار 2021 تحت ذريعة دعم رواتب القطاع العام، تحوّلت إلى منجم للتجار والسماسرة والصرافين والمصرفيين، ومنهم من حقّق أرباحاً بملايين الدولارات، في حين لم ينل موظفو القطاع العام من المنصة سوى الفتات.
وتفيد الأرقام بأنه من تاريخ قرار مصرف لبنان رفع سقوف الاستفادة من منصة صيرفة في 21 آذار 2023 وحتى تاريخ 7 تموز 2023، أي على مدار 3 أشهر وأسبوعين، تم ضخ أكثر من 8 مليارات دولار عبر منصة صيرفة. كيف توزعت تلك الدولارات؟ ومن أين أتى بها مصرف لبنان؟ كلها أسئلة لا إجابات واضحة عنها من قبل سلامة. أما المكاسب التي حققتها تلك المليارات الثمانية، فهي ضمان استقرار سعر صرف الدولار تحت سقف الـ100 الف دولار وكسب رضا السلطة السياسية.
مصدر الدولارات ومصيرها
من هنا لا بد من طرح فرضية تُثبت نفاق السلطة النقدية وتواطؤ السلطة السياسية معها. ماذا لو تم تعليق العمل بصيرفة باستثناء استفادة موظفي القطاع العام، وتحولت عملية ضخ الدولارات في السوق إلى المصارف من خلال سداد جزء من الودائع الدولارية المحتجزة منذ العام 2019؟
يرفض أكثر من مصرفي طرح هذه الفرضية، باعتبار أن عملية سداد الودائع لا بد أن ترتبط بحل مصرفي شامل، علماً ان هؤلاء المصرفيين أنفسهم لا يملكون إجابة واضحة حول مصدر تلك الدولارات التي يضخها مصرف لبنان عبر منصة صيرفة ولا حتى مصيرها.
بالمحصّلة يقترب اللاهثون وراء التمديد لسلامة من هدفهم، من خلال إشاعة القلق في الأسواق من احتمال توقف منصة صيرفة بشكل مفاجئ، وتصوير الأمر كأنه نتيجة حتمية لخروج سلامة من مصرف لبنان، متجاهلين أي إجراءات أخرى قد تضبط انفلات سعر صرف الدولار بعيداً عن توفير مكاسب جانبية. وتتجلى حال القلق من مصير صيرفة في انخفاض طلبات الاستفادة من دولارات صيرفة في المصارف بشكل ملحوظ، حسب مصدر مصرفي، خوفاً من توقف المنصة بشكل مفاجئ وعدم تمكّن العملاء من سحب أموالهم من المصارف.