على هامش اجتماعات الخريف في واشنطن، أطلق البنك الدولي تقديراته الجديدة حول مؤشّرات الاقتصاد الكلّي والفقر في لبنان، مقدّماً بذلك تشخيصه للتطوّرات النقديّة والماليّة منذ بداية العام الحالي. البنك الدولي خلص إلى توقّعات متفائلة، في حال تحقّق الاستقرار السياسي المستدام، ومتابعة تنفيذ الإصلاحات، ما يسمح بفتح الباب أمام التمويل الخارجي لإعادة الإعمار والاستثمار. غير أنّ البنك الدولي نفسه حذّر أيضاً من انتكاسة قد تهدّد هذه التوقّعات الإيجابيّة، في حال تأخّر تطبيق هذه الإصلاحات. كما حذّر البنك من بقاء الديون العامّة عند مستويات مرتفعة وغير مستدامة، في حال عدم تنفيذ عمليّة إعادة هيكلة هذه الديون خلال العام المقبل.
مؤشّرات الاقتصاد الكلّي
على مستوى المؤشّرات العامّة، قدّم البنك الدولي توقّعات متفائلة بخصوص معدل النمو الاقتصادي هذه السنة، مقدراً هذه النسبة بحدود 3.5%. وهذا ما يُعد تقدّماً مقارنة بأرقام السنة الماضية، حيث سجّل الاقتصاد اللبناني انكماشاً بنسبة 7.1%، بفعل تداعيات الحرب الإسرائيليّة على لبنان. وبحسب البنك الدولي، يرتبط هذا التقدّم خلال السنة الحاليّة بجملة من التطوّرات، ومنها العوامل السياسيّة مثل انتخاب رئيس للجمهوريّة وتشكيل حكومة جديدة، فضلاً عن تنفيذ مجموعة من الإصلاحات مثل التعديلات على قانون السريّة المصرفيّة وإقرار قانونيّ إصلاح أوضاع المصارف واستقلاليّة القضاء وتعيين الهيئات الناظمة.
اللافت في الأرقام التي قدّمها البنك الدولي، هو توقّعاته بالنسبة إلى محدّدات النمو الاقتصادي. فبحسب هذه التقديرات، سيحقّق الاستثمار في الأصول الثابتة زيادة بنسبة 54.7%، بعد تسجيله انكماشاً العام الماضي بنسبة 31.6%. كما سيحقّق الإنفاق العام زيادة وازنة بنسبة 18.4%، ما يجعله ثاني أكبر مساهم في نسبة النمو. غير أنّ البنك الدولي ظلّ متحفّظاً بالنسبة إلى تقديراته إلى معدلات استهلاك القطاع الخاص، التي لن ترتفع إلا بنسبة هامشيّة لا تتجاوز الـ 1.5%، ما يؤشّر إلى استمرار الضعف في القوّة الشرائيّة على مستوى المستهلكين.
وعلى مستوى القطاعات، اعتبر البنك الدولي في تقديراته أنّ قطاع الخدمات سيقود النمو هذه السنة، بنسبة تقارب الـ 3.7%، فيما سيحقّق القطاع الصناعي نمواً أقل، بنسبة تقارب 2.5%، مقابل نسبة لا تتجاوز الـ 2% للقطاع الزراعي. وتجدر الإشارة إلى أنّ تقديرات البنك الدولي لم تحمل أي زيادة في نسبة التوظيف، أي نسبة العاملين من أصل إجمالي السكّان، والتي ستبقى عند حدود 36.5%.
بالنسبة للعام المقبل، وضع البنك الدولي تقديراً لنسبة النمو عند حدود الـ 4%. غير أنّه، في الوقت نفسه، ترك هذه النسبة مفتوحة على احتمالات مختلفة، وفقاً لدرجة التقدّم في تحقيق الإصلاحات الاقتصاديّة، وبحسب مستوى الاستقرار السياسي في البلاد.
على أي حال، من المهم التنويه إلى أنّ تقديرات البنك الدولي الحاليّة بالنسبة للنمو الاقتصادي هذه السنة جاءت أدنى من تقديراته السابقة. ففي تقريره السابق، الصادر في شهر حزيران الماضي، قدّر البنك الدولي نسبة النمو المتوقّعة في لبنان هذا العام عند حدود 4.7%، ما يشير إلى انخفاض نسبي في درجة تفاؤل البنك الدولي بالنسبة للبنان. وفي المقابل، لم تختلف تقديرات البنك الدولي لدرجة الانكماش الاقتصادي الذي تحقّق العام الماضي، ما يجعل نسبة الانكماش التراكمي منذ العام 2019 بحدود الـ 40%.
الحاجة لزيادة الإنفاق
أهم ما في تقديرات البنك الدولي، جاء في القسم المتعلّق بأوضاع الماليّة العامّة. فبحسب هذه التقديرات، ارتفع حجم الإيرادات الضريبيّة غير المباشرة خلال النصف الأوّل من العام 2025 بنسبة 74.8%، وهو ما يشمل الضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركيّة. وساهم هذا الارتفاع في حجم الإيرادات في تكوين “هامش مالي احتياطي لمواجهة الصدمات”. وهنا، كان من الواضح أنّ البنك الدولي يشير، ولو بشكلٍ غير مباشر، إلى الفوائض التي تحقّقها الميزانيّة العامّة، والتي تساهم في زيادة حجم ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان.
ورغم هذا التنويه العام، يعود البنك الدولي ليقدّم توصيات أوضح بالنسبة للماليّة العامّة، مؤكداً الحاجة المتزايدة للإنفاق على إعادة بناء القدرات المؤسساتية، والإنفاق الجاري، بما في ذلك الأجور والخدمات الأساسية، والمشاريع الاستثمارية. وفي هذا الجانب، بدا أنّ البنك الدولي يقدّم نقداً مبطناً للسياسة الماليّة القائمة اليوم، والتي تُفرط برأي كثيرين في التقشّف، إلى حد الامتناع عن استخدام الإيرادات العامّة المتركمة في مصرف لبنان.
في الجانب المتعلّق بالماليّة العامّة أيضاً، يقدّم البنك الدولي نقداً صريحاً آخر. فبعد خمس سنوات من تخلّف لبنان عن تسديد ديونه العامّة، ما زال التقدّم في إعادة هيكلة هذه الديون محدوداً، وهو ما يبقى هذه الديون عند مستويات غير مستدامة، وبما يعادل الـ 176.5% من الناتج المحلّي الإجمالي خلال العام 2024. ويعيد التقرير التذكير بأنّ 98% من إجمالي الديون العامّة المتبقية اليوم هي بالعملات الأجنبيّة، ما يعطي أزمتها أهميّة خاصّة بالنسبة إلى بلد يعاني من أزمة في قطاعه المالي.
تحسّن في مؤشرات الأمن الغذائي
تقديرات البنك الدولي بالنسبة للبنان أظهرت تقدماً على مستوى الأمن الغذائي. إذ انخفضت أعداد الأشخاص الذين يعانون من حالة انعدام الأمن الغذائي إلى حدود 1.17 مليون شخص خلال شهر حزيران الماضي، مقارنة بالتقديرات السابقة البالغة 1.65 مليون شخص خلال شهر نيسان. ويرى البنك أن هذه التقدّم مرتبط بوقف إطلاق النار، وتحسّن المساعدات الغذائيّة، والاستقرار الجزئي في أسعار السوق. ومع ذلك، ما زال البنك الدولي يحذّر من هشاشة مؤشّرات الأمن الغذائي، بسبب عوامل مثل تضرّر البنية التحتيّة الزراعيّة، واستمرار التضخّم، ونقص التمويل في برامج المساعدات الإنسانيّة.
في النتيجة، عكس التقرير التفاؤل الذي ساد في النصف الأوّل من العام الحالي، بعد انتهاء أزمات الشغور في مركز الرئاسة وعدم وجود حكومة كاملة الصلاحيّات، فضلاً عن طي صفحة الحرب الواسعة النطاق. إلا أنّ هذا التفاؤل ما زال مصحوباً بالحذر، نظراً لاحتمالات المراوحة في تنفيذ الإصلاحات الماليّة، ما قد يفرمل الاندفاعة الإيجابيّة التي شهدها لبنان خلال الأشهر الماضية. أمّا الأهم، فهو أنّ عودة لبنان إلى أسواق المال الدوليّة ستبقى متعذّرة، قبل معالجة أزمة الديون العامّة، ما يفرض البدء بالتفاوض الجدّي مع الدائنين.



