تشهد السوق اللبنانية في السنوات الأخيرة حالة فوضى غير مسبوقة في الأسعار، لا سيّما في قطاع المواد الغذائيّة، على الرغم من استقرار سعر صرف الدولار مقارنةً بسنوات الأزمة الأولى.
علامة استفهام كبرى ترسم حول أسباب هذا “التذبذب” الكبير في الأسعار، هل هو ناتج عن جشع غير مسبوق لدى التجار من دون أي رقابة فعليّة من الأجهزة الرسميّة المختصة، بذريعة أن لبنان يتمتع بنظام اقتصادي حرّ يضع المواطن تحت وطأة معاناة كبيرة من وضع معيشي صعب حيث لا يُمكن للحدّ الأدنى للأجور إنْ في القطاع العامّ أو حتى في الخاصّ أن يُلبّي متطلّبات الحياة المعيشية الأساسيّة.
في قراءة من المعنيين بالملف المعيشي لا سيّما المستوردين والتجّار يتبيّن أنهم يُبرّرون هذا الارتفاع في الأسعار بالمتغيّرات الاقتصاديّة العالميّة وارتفاع أسعار السلع عالميًّا إضافة إلى النظام الاقتصادي الحرّ الذي يتمتع به لبنان.
اقتصاد حرّ
مدير مصلحة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد طارق يونس، يُوضح لـ “نداء الوطن”، أن “لبنان يعمل ضمن نظام اقتصاديّ حرّ، حيث لا يتمّ تحديد سعر موحّد للسلع والخدمات من قبل الدولة كما يحدث في بعض الأنظمة الأخرى. ومع ذلك، هناك ضوابط قانونية تحكم السوق، مثل عدم تجاوز نسب أرباح محدّدة عند بيع بعض السلع الغذائية الأساسية. هذه الضوابط تهدف إلى حماية المستهلك ومنع أي استغلال أو رفع غير مبرّر للأسعار، في ظلّ غياب تحديد الأسعار بشكل مباشر من الدولة”.
إذًا في إطار المنافسة الحرّة، يلفت يونس إلى أن “الأسعار تُرعى بضوابط محدّدة لضمان عدم استغلال المستهلك. ومن أبرز هذه الضوابط النصوص القانونيّة التي تحدّد نسب الأرباح المسموح بها لبعض السلع الغذائيّة والأساسيّة، مثل الحبوب، الخضار، الفواكه، واللحوم. وتختلف هذه النسب حسب نوع السلعة، حيث تتراوح عادة وبالنسبة لكل سلعة ما بين 10– 12 % إلى حدود 20–22 % كحد أقصى”.
ويُردف قائلًا: “هنا يكمن دور المراقب في السوق، الذي يقوم بالتحقق من الأسعار والفواتير، ومقارنة سعر الشراء لدى التاجر أو السوبرماركت بسعر البيع للمستهلك، ليتمّ احتساب نسبة الأرباح. وفي حال تجاوزت هذه النسبة الحدّ المسموح به وفقًا للقوانين، يتمّ اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة، بما في ذلك تحرير محضر ضبط وإحالته إلى القضاء المختص. كما تشمل صلاحيات المراقبة متابعة إعلان الأسعار، والتأكد من مطابقة السعر المعروض على الرف مع السعر المستوفى عند الصندوق، والالتزام بشروط السلامة الغذائية، مثل درجة حرارة البرّادات، التخزين، النظافة، وسلامة المواد الغذائية بشكل عام. ويُعدّ أي غش في الأوزان أو عدم الالتزام بهذه الشروط مخالفة تستدعي تنظيم محاضر ضبط وإحالتها إلى القضاء، لاتخاذ الإجراءات القانونيّة بحق المخالفين”.
يُضيف: “يُعدّ إعلان الأسعار بشكل واضح واجبًا أساسيًا على كلّ صاحب نقطة بيع، وحقًا مشروعًا للمستهلك. فمعرفة الأسعار تتيح للمواطن اتخاذ القرار المناسب عند الشراء واختيار السلعة التي تتوافق مع قدراته المالية، وهو ما يعكس التزام التاجر بالشفافية والمصداقية في التعامل”.
كلام يونس يتقاطع مع كلام نقيب أصحاب السوبرماركت نبيل فهد حول “الاقتصاد الحرّ”، حيث يُوضح لـ “نداء الوطن”، أننا “نحن في اقتصاد حر، حيث تقوم المنافسة بتنظيم الأسعار بشكل كبير”.
إلّا أن هذا “لا يُلغي الحاجة إلى الرقابة الضرورية” حسبما يؤكّد فهد وذلك “لضمان التزام جميع الأطراف بالقوانين والمعايير. فالرقابة مهمة جدًا لضبط الأسعار وحماية المستهلك، سواء على الأوزان، نوعية السلع، جودة المنتجات، أو سلامة الغذاء، وذلك عبر الجهات المختصة مثل وزارة الاقتصاد، وزارة الصحة، ووزارة الزراعة”.
أدوات المنافسة
من جهة أخرى، يعتبر فهد أن “إعلان الأسعار إحدى أهم أدوات المنافسة الفعّالة. فعندما تُعلن الأسعار بشكل واضح، سواء على الرفوف أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي والعروض على المواقع الإلكترونية، تنشأ منافسة قوية بين نقاط البيع والسوبرماركت، ما يمنح المستهلك القدرة على اختيار أفضل الأسعار وأفضل جودة للسلع”.
وبالنسبة إلى قطاع السوبرماركت، يلفت فهد إلى أن “الأسعار معلنة دائمًا وشفافة، سواء على الرفوف أو عبر القنوات الرقميّة. وهذا يمنح المستهلك قوة كبرى وقدرة على اتخاذ القرار المناسب عند الشراء، وبالتالي يُعزز المنافسة الصحية بين نقاط البيع لصالح المواطن”.
أسباب الغلاء
عن أسباب الغلاء وهل هو مبرّر، يقول رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي، لـ “نداء الوطن”: “عندما نتحدّث عن أسعار المواد الغذائية، يجب التمييز بين ما يقال في السوق وما يظهر فعليًا في الأرقام والفواتير. فالحديث عن زيادات بنسبة 20 أو 30 بالمئة منذ بداية السنة لا يعكس حقيقة الوضع. نحن لا نتحدّث عن أسعار البيع على الرف فقط، بل نتناول الأسعار من المصدر، أي من المستورد إلى السوق، استنادًا إلى الفواتير الفعلية التي نستلمها”.
وهنا يؤكّد أنه “من خلال هذه الفواتير، يمكن إثبات أن هناك أصنافًا انخفضت أسعارها، وأصنافًا أخرى ارتفعت أسعارها بشكل مبرّر نتيجة تغيّرات عالمية. على سبيل المثال، الزيوت النباتية ارتفع سعرها عالميًا بنسبة تقارب 15 %، بينما لم تتجاوز الزيادة لدينا 10 % فقط، وذلك موثق بالفواتير”.
ويعطي هنا مثالًا: “بعض الأصناف المستوردة من منطقة اليورو تأثرت مباشرة بتبدّل سعر الصرف. فبداية السنة كان اليورو عند حدود 1.05، ثم ارتفع إلى حوالى 1.16، أي بزيادة تقارب 10 %، ما انعكس حكمًا على أسعار السلع الأوروبية”.
في المقابل، يلفت إلى “أصناف شهدت انخفاضات واضحة مثل: الأرز، والسكر”، مُشدّدًا على أن “أي جهة تعتمد زيادات غير مبررة على هذه الأصناف الشعبية – كالحديث عن ارتفاع 20 % مثلًا – يمكن لوزارة الاقتصاد ملاحقتها مباشرة، لأن الأرقام والفواتير لا تسمح بمثل هذه الزيادات”.
كمثال توضيحي، يلفت بحصلي إلى أن ” لبنان يستورد نسبة معتبرة من السلع الغذائية من منطقة اليورو — بما يقارب 30 % من مخزون بعض الأصناف الأساسية. وهذا يعني أن أي تغير في سعر اليورو أو في كلفة الاستيراد ينعكس مباشرةً على مكوّنات أسعار هذه السلع في السوق المحلية. ومع ذلك، عند مراجعة مؤشرات الأسعار (CPI) من بداية العام وحتى الآن، نجد أن الفرق الإجمالي في كثير من الأحيان لا يتجاوز 20 %، وهو تحرّك ضمن نطاق تقلبات معقولة نسبيًا، ولا يتوافق مع الادعاءات التي تتحدث عن زيادات بنسبة 50% أو 100% أو 200%”.
ويرى بحصلي أن هناك أسبابًا مبرِّرة لهذه الزيادات المحدودة نسبيًّا، منها:
تقلّبات أسعار العملات (ارتفاع اليورو مثلًا بنسبة تقارب 10 % يؤثر مباشرةً على السلع المستوردة من منطقة اليورو)، تكاليف الشحن والاستيراد وتذبذب أسعار المواد الأوليّة عالميًا. وارتفاع كلفة الطاقة والضرائب المفروضة على المحروقات، ما يرفع بدوره كلفة النقل والتخزين. وزيادة أعباء التشغيل على الشركات (أجور، رسوم، التزامات ضريبية أو رسمية) في السنوات الأخيرة، ما ينعكس جزئيًّا على أسعار البيع”.
إشكاليّة أساسيّة
يتطرّق بحصلي إلى “ثقل الكلفة المعيشيّة”، إذ يشير إلى أن “المواطن اللبناني يشعر بثقل الكلفة المعيشية، خصوصًا في ظل عدم مواكبة معدلات الرواتب — سواء في القطاعين العام أو الخاص — لهذه الزيادات المتلاحقة”.
وهنا نواجه إشكالية أساسيّة، كما يقول بحصلي، “فالقطاع الخاص غير قادر على رفع رواتب الموظفين في ظل اقتصاد لا يشهد نموًا كافيًا. وفي المقابل، لا يمكن للاقتصاد أن ينمو ما لم تتمكن الشركات من تطوير إنتاجها وتحسين قدرتها على دفع أجور أعلى. هذا الدوران في الحلقة المفرغة يزداد تعقيدًا بسبب غياب القطاع المصرفي الفاعل وحرمان المؤسسات من مصادر التمويل الضرورية للاستثمار والتوسّع”.
صلاحيّات حماية المستهلك
عن صلاحيّات مديريّة حماية المستهلك، يُوضح يونس أنها “صلاحيّات واسعة ومتنوّعة تهدف إلى حماية المواطنين وضبط السوق. تشمل هذه الصلاحيات مراقبة سلامة الغذاء بشكل عام، سواء في المطاعم، السوبرماركت، أو الأفران. ويشمل ذلك التحقق من تواريخ انتهاء الصلاحية، مراقبة البرّادات والحرارة، شروط التخزين، والتأكد من الالتزام بمعايير السلامة الغذائية”.
يُضيف: “تمتدّ هذه الصلاحيات أيضًا لتشمل ملف المولّدات الكهربائية، حيث يتم التأكد من الالتزام بالتسعيرة الرسمية الصادرة عن وزارة الطاقة، وكذلك تركيب العدّادات بطريقة صحيحة. إضافة إلى ذلك، يشمل عمل المديرية متابعة “الكيل” في محطات البنزين، بحيث يتأكد أن الكمية المعلَن عنها هي نفسها التي يحصل عليها المستهلك، مع الالتزام بالسعر الرسميّ. وتشمل الصلاحيات أيضًا متابعة المحلات التجارية المختلفة والتأكد من عدم التلاعب بالأسعار أو المواد المعروضة”.
شراكة مع المواطنين
يؤكّد يونس على “الشراكة الحقيقيّة مع المواطنين، ونسعى لتقديم خدماتنا بأقصى قدر من الشفافية والوضوح. من هذا المنطلق، قمنا بتطبيق نظام التحوّل الرقميّ الذي يتيح للمواطنين تقديم الشكاوى ومتابعتها بكل سهولة من منازلهم، عبر التطبيق الإلكتروني أو الأبليكيشن التابع لوزارة الاقتصاد”.
ويشرح كيفيّة “تقديم الشكوى”، إذ يشير إلى أنه “عند تقديم الشكوى، يتلقى المواطن إشعارًا على هاتفه عبر SMS يؤكد تسجيل الشكوى برقم وتاريخ محدّدين. بعدها، يتلقى إشعارًا آخر عند بدء التحقيق في الشكوى، وإشعارًا إضافيًّا عند انتهاء التحقيق بنتيجة محدّدة. هذا النظام يضمن الشفافية الكاملة في التعامل مع الشكاوى، ويتيح للمواطن متابعة كل خطوة من خطوات التحقيق والتأكد من سير الإجراءات وفق الصلاحيات المقررة. كما يتيح له التعبير عن رضاه أو ملاحظاته على نتيجة التحقيق، ما يعكس حرص الوزارة ومديرية حماية المستهلك على التواصل المفتوح والشفاف مع الناس والمستهلكين، ويضمن سهولة الوصول إلى الحقوق وتحقيق العدالة في المعاملات”.
يتابع: “نحن نسعى للتواصل المباشر والفعّال مع المواطنين من خلال مديرية حماية المستهلك. فإذا لاحظ المواطن أي مخالفات في الأسواق، يمكنه تقديم الشكوى بسهولة عبر التطبيق الإلكتروني المخصّص على هاتفه. ونشجع الجميع على تحميل هذا التطبيق واستخدامه لتقديم الشكاوى مباشرة، تقوم المديرية بمتابعة كل شكوى بدقة واهتمام كاملين، بدءًا بتسجيلها وحتى انتهاء التحقيق وتوصيل النتائج للمواطن. وعندما يرى المواطن أن هناك استجابة فعلية من تقديم شكواه، يُمكنه مشاركة التجربة مع الآخرين، لتعزيز الشفافية وبث الثقة في عمل المديرية. بهذه الطريقة، تضمن المديرية معالجة الشكاوى بشكل صريح ودقيق، وتحقيق العدالة وحماية المستهلك في الأسواق”.
مخالفات 2025
بالحديث عن المخالفات، يلفت يونس إلى أنه “خلال عام 2025 وحتى آخر إحصاء متاح، تلقت مديرية حماية المستهلك 1133 شكوى عبر التطبيق الإلكتروني المخصص لذلك، وذلك قبل اعتماد التطبيق كانت الشكاوى تُقدّم عبر البريد الإلكتروني أو وسائل أخرى. وبلغ عدد المخالفات التي تم تنظيمها حوالى 1400 مخالفة”، موضحًا أن “المخالفات تتنوّع بحسب طبيعة العمل والقطاعات، لكن أبرزها يتعلّق بـ: المولّدات الكهربائية، مثل عدم الالتزام بالتسعيرة أو مشاكل في الاشتراك والفواتير، وسلامة وأسعار السلع الغذائية، حيث تم تنظيم نحو 600 محضر ضبط خلال العام لمخالفة شروط السلامة الغذائية أو تجاوز الأسعار المقررة قانونيًا”.



