تشهد الإمارات والسعودية تحولا لافتا في موقعهما ضمن سباق الفضاء العالمي، حيث لم تعُد طموحاتهما الفضائية مقتصرة على الاستكشاف العلمي، بل باتت ترتبط بالأمن والتكنولوجيا والاستثمار الجيوسياسي. وفي ظل هذا الزخم يبرز تعاون محتمل مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ما يعكس اندماجًا متزايدًا بين القدرات الفضائية الخليجية والمنظومات الدفاعية الدولية.
في السنوات الأخيرة برزت الإمارات والسعودية كقوتين رائدتين في مجال تطوير التكنولوجيا الفضائية في الشرق الأوسط، ما جعلهما لاعبين أساسيين في تحولات قطاع الفضاء التجاري العالمي.
وتؤكد استثماراتهما الضخمة في تقنيات الفضاء متعددة الاستخدامات، بالإضافة إلى شراكاتهما الإستراتيجية مع وكالات فضاء دولية وشركات عالمية، دورهما المحوري في تشكيل مستقبل الفضاء بالمنطقة.
وتعتبر الإمارات، من خلال مركز محمد بن راشد للفضاء، من أبرز الدول التي حققت نجاحات باهرة على الساحة الفضائية، أبرزها إطلاق مهمة “الأمل” إلى المريخ عام 2020، بالإضافة إلى استعداداتها المكثفة لمهام جديدة إلى القمر والكويكبات، ما يعكس قدرة الإمارات على المساهمة في تطوير أدوات متقدمة للتصوير الطيفي تعزز مراقبة الأرض والاستخبارات الفضائية.
أما السعودية فتتوسع بسرعة في برامجها الفضائية، مدعومة برؤية 2030 التي تضخ استثمارات كبيرة في بنية تحتية للأقمار الصناعية، وتقنيات مراقبة الأرض، وإطلاق قدرات محلية للإطلاق الفضائي.
وقد شكّل إرسال أول رائدة فضاء سعودية، ريانة برناوي، إلى محطة الفضاء الدولية في 2023 خطوة رمزية وعلمية بارزة. كما انضمت الرياض إلى “اتفاق أرتميس” بقيادة الولايات المتحدة، ووقعت اتفاقيات موسعة مع وكالة ناسا لتعزيز الأبحاث المشتركة والمهام المستقبلية.
ولم يقتصر هذا الزخم التطويري على الجوانب التقنية فحسب، بل امتد ليشمل الشراكات الأمنية والدفاعية، حيث تظهر الإمارات والسعودية كجسور للتعاون مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) في جهود دمج تقنيات الفضاء التجارية ضمن منظومة الأمن والدفاع الجماعي.
وقد أشار الناتو، في إستراتيجيته الفضائية التجارية التي أُطلقت خلال قمة لاهاي 2025، إلى أهمية التعاون مع شركاء من خارج الحلف ممن يتمتعون بثقة عالية، مثل الدول الخليجية، من أجل تعزيز مرونة البنية التحتية الفضائية، وتوسيع قاعدة الموردين، والاستفادة من القدرات التقنية المتقدمة.
وتؤكد استثماراتهما الضخمة في تقنيات الفضاء متعددة الاستخدامات، بالإضافة إلى شراكاتهما الإستراتيجية مع وكالات فضاء دولية وشركات عالمية، دورهما المحوري في تشكيل مستقبل الفضاء بالمنطقة
وترى منال فاطمة، مديرة مساعدة في مبادرة سكوكروفت لأمن الشرق الأوسط، في تقرير نشره المجلس الأطلسي أن هذا التعاون يمثل فرصة إستراتيجية للطرفين؛ فبينما يسعى الناتو إلى تنويع مصادر الدعم التكنولوجي وتقوية دفاعاته الفضائية ضد التهديدات المتزايدة مثل هجمات الأقمار الصناعية والتشويش والتخريب، ترى دول الخليج في هذا الانخراط فرصة لتعزيز مكانتها كشركاء أمنيين موثوقين في القضايا العالمية، وخاصة في القطاعات المتقدمة كالفضاء والأمن السيبراني.
وقد أطلق الناتو مبادرات ملموسة لتيسير هذا التعاون، مثل بوابة الفضاء الأمامية للناتو التي تتيح للشركات الخاصة المعتمدة تقديم حلول فضائية للحلف، ومنصة “سبيس نات” التابعة لمجموعة الناتو الاستشارية الصناعية، والتي أتاحت التواصل مع أكثر من 300 شركة فضائية حول العالم، من ضمنها جهات خليجية.
كما تنظر الإستراتيجية إلى إمكانية إنشاء “احتياطي فضاء مدني” من مزودين تجاريين موثوقين يمكنهم دعم الحلف في أوقات الأزمات، وهي آلية قد تفسح المجال أمام شركات خليجية مؤهلة.
ورغم هذه الإمكانيات يتمثل التحدي الأكبر في تحقيق توازن دقيق بين تطوير هذه القدرات الفضائية ومواءمتها مع المعايير الأمنية لحلف الناتو، خاصة في ما يتعلق بحوكمة الاستخدام المزدوج (المدني والعسكري)، وحماية المعلومات، وبناء الثقة المؤسسية.
ولهذا يتبنى الناتو نهجًا مرحليًا يعتمد على “شراكات الشركاء”، حيث يمكن دمج الهيئات الخليجية بشكل غير مباشر عبر مبادرات تقودها دول أعضاء في الحلف، أو من خلال تدريبات ومناورات مشتركة، تضمن التكامل التدريجي دون المساس بالمعايير الأمنية.
وفي هذا السياق تلعب الولايات المتحدة دور الجسر المحوري بين الناتو ودول الخليج، بحكم كونها القوة الفضائية الرائدة في الحلف، ولعلاقاتها الوثيقة مع دول الخليج في المجالين العسكري والتكنولوجي.
وقد أكد تقرير الشراكة الدولية لقوة الفضاء الأميركية (2025) أهمية تمكين الحلفاء كشركاء إستراتيجيين في تصميم وتنفيذ القدرات الفضائية، مع ترك الباب مفتوحًا أمام الفاعلين الخليجيين الذين يثبتون جدارتهم وانسجامهم مع المعايير الغربية.
وتؤكد هذه الديناميكية المتسارعة أن الإمارات والسعودية لم تعودا مجرد مستهلكتين للتكنولوجيا الفضائية، بل تحولتا إلى قوتين إقليميتين مبدعتين ومؤثرتين، تساهمان في تشكيل مستقبل الفضاء العالمي، وتوفران جسورًا إستراتيجية تربط بين الجنوب العالمي والمؤسسات الأمنية الغربية.
ومع تنامي أهمية الفضاء كمجال حيوي للأمن القومي، فإن تعزيز هذا التعاون يعد خطوة ضرورية نحو بناء منظومة فضائية أكثر أمنًا واستدامة وتخدم مصالح جميع الأطراف.
ويرتبط تصاعد الدور الفضائي للإمارات والسعودية بسياق أوسع من التحولات الجيوسياسية والتكنولوجية التي تعيد تشكيل معادلات القوة في القرن الحادي والعشرين. فقد بات الفضاء يُنظر إليه ليس فقط كميدان للابتكار العلمي، بل كعنصر جوهري في الأمن القومي والسيادة الرقمية، ومجال تنافسي محوري في الصراع بين القوى الكبرى.
ومن هذا المنطلق تتعامل الدول الخليجية مع قطاع الفضاء كأداة لتعزيز مكانتها الإستراتيجية عالميًا، لا كمجرد رمز للتقدم التكنولوجي.
كما ساهمت التحولات التي عرفتها طبيعة الفضاء نفسه في تعزيز هذا التوجه؛ فمع تسارع التخصيص والخصخصة وتنامي دور الشركات الناشئة والمزودين التجاريين في عمليات الإطلاق والمراقبة والاتصال أصبح من الممكن لدول غير تقليدية أن تدخل هذا المضمار بسرعة وكفاءة، بشرط توفر الرؤية السياسية والدعم المالي والبيئة التنظيمية المرنة. وهذا ما تحقق في بيئة الإمارات والسعودية، مقارنةً بأنظمة بيروقراطية معقدة في دول كبرى.
وعلى الرغم من الحضور الأميركي والروسي والصيني القوي في الفضاء، لا تزال هناك فجوات ملموسة في مناطق مثل الشرق الأوسط وأفريقيا، سواء على مستوى الخدمات أو من ناحية البنية التحتية الفضائية.
وقد أدركت الإمارات والسعودية هذه الفجوة، وسعتا إلى لعب دور إقليمي قيادي من خلال تقديم خدمات مراقبة الأرض، ودعم البنية التحتية للاتصالات، وتدريب الكوادر، خاصة في الدول النامية. وهذا التوجه لا يعزز فقط “قوة ناعمة فضائية”، بل يمكّنهما من صياغة نفوذ طويل الأمد وقائم على التكنولوجيا والمعرفة، لا على الموارد فقط.
ومن بين الدوافع الجوهرية وراء تسريع الاستثمار الخليجي في الفضاء، يتصدر عامل “التحكم في البيانات السيادية”، خاصة في ظل تصاعد التحديات المرتبطة بالأمن السيبراني، والتبعية التكنولوجية، وصراعات المعلومات.
وعبر امتلاكها للأقمار الصناعية وقدرات الاستشعار والتحليل، تتمكن الدول الخليجية من تقليل اعتمادها على مصادر بيانات أجنبية قد تكون مشروطة سياسيا. ولهذا تأتي شراكاتها مع وكالات مثل ناسا كآلية لتحقيق توازن بين نقل المعرفة وضمان الاستقلالية.
وفي سياق المنافسة الإقليمية يكتسب تفوق الإمارات والسعودية في مجال الفضاء بعدًا جيوسياسيًا، خاصة في ظل غياب مشاريع فضائية متقدمة في دول مثل إيران وتركيا على الرغم من طموحاتها. كما أن تعزيز الحضور في المنصات الغربية مثل “اتفاق أرتميس” و”شراكات الناتو الفضائية” يكرّس تموضعًا سياسيًا واضحًا للدولتين ضمن المعسكر الغربي، ما قد يؤثر في إعادة ترتيب الاصطفافات الإقليمية مستقبلًا.



