يضع وزير الإتصالات جوني القرم التسريبات الإعلامية الأخيرة عن سمسرات تعقد بوزارته لبناء إمبراطوريات جديدة على أكتاف «تنظيم الإنترنت غير الشرعي»، في إطار عملية التشويش التي يتعرض لها لمنع التقدم في خطوات عملية بإتجاه تحقيق هذا الهدف، ولا سيما بعدما بلغت الوزارة، كما يؤكد، حدّ تكليف شركات الـ ISP أو مزودي خدمة الإنترنت، بالرسوم التي تخلّفوا عن تسديدها منذ تاريخ دخول المرسوم رقم 956 حيّز التنفيذ بتاريخ 1/7/2017، وبالتالي إستمرار مساعي هذه الشركات لتجنّب شروط تأجيرها السعات الدولية أو ما يعرف بالـE1.
هذا القرار كان الأخير الذي اتّخذته الوزارة في ما يتعلق بالإنترنت غير الشرعي منذ شهر تشرين الثاني الماضي، بعدما لمس القرم كما أشار حينها، عدم تعاون في الإفصاح عن أعداد المشتركين الفعليين الذين تزودهم شركات الـ ISP بالإنترنت. في وقت لوحظ مضي الوزارة بالبحث عن الإجراءات التطبيقية لأحكام المادتين 16 و17 من المرسوم 9458 الذي صدر في حزيران من العام 2022، مع أنّ تطبيق القرار الأخير لا ينطبق مع مفاعيل هذا المرسوم الذي يبحث في عقود نموذجية تضع «ديوك الأحياء» تحت كنف الدولة، مع ضمان عدم إنقطاع الخدمة التي يقدمونها وخصوصاً في المناطق النائية التي لا تبلغها «شبكة الدولة».
عوائق وتعقيدات
إلا أنّ تعقيدات هذا الملف وعوائقه تبدو أبعد مما يذكره القرم. فعلى رغم مرور أكثر من عام ونصف على صدور المرسوم 9458، وأكثر من ثلاثة أشهر على تلويح وزارة الإتصالات بإجراءات تكليف شركات الـISP المخالفة، لم تنجح الوزارة في خطوة إجرائية واحدة من تلك الخطوات التي لوحت بها، أو وردت في توصيات ديوان المحاسبة من ضمن تقريره المفصل الذي أصدره منذ العام 2021، والذي فند من خلاله المخالفات التي أوصلت القطاع إلى ما هو عليه من حالة الفوضى. هذا مع العلم أنّ تقرير الديوان الذي إستغرق إعداده نحو عامين وفقاً لمصادر متابعة، لم يفصل ولادة الشبكات غير المرخصة عن الرخص التي منحت خلافاً للقوانين التي تحصر الخدمة بوزارة الإتصالات، لشركات ناقلي المعلومات DSP والإنترنت والـISP و»التي سمحت للقطاع الخاص بمدّ شبكة خاصة إلى جانب شبكة الدولة من دون تحديد نطاق جغرافي له، ما خلق منافسة غير مشروعة لا سيما في المناطق والمدن ذات المردود المرتفع».
في معرض التعريف عن حالة الفوضى السائدة، ترفض مصادر في وزارة الإتصالات وصف الواقع بغير الشرعي، إنما تعتبره «مخالفاً للعقود الموقعة مع شركات الـISP»، نتج عن إرتفاع الطلب في السوق اللبنانية وعدم قدرة الدولة على مواكبته. إلا أنّ هذا الواقع «المخالف للعقود» تمدد ليشمل حتى الآن نحو 700 ألف مشترك وفقاً لإعترافات رسمية، أي ما يوازي ضعف عدد مشتركي أوجيرو والمشتركين المصرح عنهم من الشركات الخاصة، يخضع هؤلاء مباشرة لسلطة موزعين في الأحياء، الذين ما إن تحتل تجهيزاتهم أعمدة الكهرباء أو تجتاح الممتلكات، حتى يتحولوا ديوكاً في أحيائهم، يحتكرون الخدمة التي يوفرونها ويتحكمون بأسعارها.
ورقة التأييد الشعبي
إستفحلت هذه الظاهرة خصوصاً خلال فترة «كورونا»، عندما كثر طلب الناس على خدمة الانترنت السريع والمتواصل، فانفتح السوق على كمّ كبير من مقدّمي هذه الخدمة، ملأوا بها الفراغ الذي نتج عن ضعف شبكة الدولة، وحتى عدم توفرها في بعض المناطق.
ومن هنا يعتبر هؤلاء أنفسهم أصحاب فضل على المجتمعات التي نشأوا وتمددوا فيها. ويعتقدون أنهم يملكون ورقة التأييد الشعبي التي تجعل وزارة الإتصالات تبحث عن إرضائهم بعقود الصيانة المطروحة ضمن المرسوم. ولكن وفقاً لهؤلاء مشكلة «الدولة» الفعلية ليست معهم، فهم يسددون كلفة السعات التي يحصلون عليها من مصادرها، إلا أن مخالفة شركات الـISP والـDSP لعقودها التي تمنع بيع السعات لطرف ثالث تحول دون التصريح عن مداخيلها المحققة بفضلهم، وبالتالي حجبها عن الخزينة العامة. ومن هنا تأخذ مصادر خبيرة على الخطة الموضوعة من قبل وزارة الإتصالات، سعيها لقولبة الأمر الواقع الذي فرضته هذه الفوضى السائدة، بإطار تنظيمي، قد يضمن تقاسم المداخيل مع مقدمي الخدمة غير المرخصين، ولكنه يبقى مجرداً من معالجة جذور المشكلة ومسبباتها. وهو ما يجعل الساحة مفتوحة يومياً لولادة «ديوك» جديدة، طالما أنّ واقع السوق المتطور يؤكد تزايد الحاجات وتطورها بإستمرار.
106 شركات ISP تعتبر، وفقاً لمصادر وزارة الإتصالات، عدداً كبيراً جداً من شركات تزويد الإنترنت في بلد بمساحة لبنان، فكيف الحال إذا ما أحصينا أعداد «الديوك» الذين ولدوا في الأحياء بفضل مخالفات الشركات المرخصة، فأنشأوا محمياتهم العصية على القانون، مساهمين في حرمان خزينة الدولة من إسترداد إستثماراتها!
الحديث عن هذه المحميات ورد أيضاً في تقرير ديوان المحاسبة الصادر في 2021، ولا سيما عندما حجبت الشركات المرخصة المعلومات التي لديها عن المشتركين الذين يتزودون بالسعات منها، والتي تبيّن أنها تفوق بأضعاف حاجة المشتركين المصرح عنهم.
إلا أن هذه الظاهرة جرى تجهيلها في القسم الرابع من المرسوم 9458 الصادر في حزيران 2022. ففي تناوله موضوع الشبكات المنشأة خلافاً للقوانين نصّ المرسوم في المادة 16 على «ضبطها ووضعها بتصرف وزارة الإتصالات لإدارتها إلى حين إتخاذ القرار المناسب من قبل القضاء المختص». وأجاز للوزير خلال ستة أشهر من تاريخ نفاذ هذا المرسوم «التعاقد مع منشئي هذه الشبكات المضبوطة لصيانتها، على أن لا تتجاوز مدة التعاقد الثلاث سنوات».
إلا أنّ تكليف مؤسسي الشبكات المخالفة بصيانتها ليس وحده ما يثير الإستغراب وفقاً لمصادر خبيرة، إذ إنّ القطبة «الأخطر» التي يخفيها المرسوم هي في مادته السابعة عشرة، والتي تتيح لشركات نقل المعلومات DSP المرخص لها بحسب الأصول، التقدم بطلبات لإستثمار الشبكات المضبوطة. أي تخطي مجرد الصيانة إلى الإستثمار، الأمر الذي رأت فيه المصادر محاولة لتسلّط هذه الشركات على القطاع، بحيث تأكل السمكة الكبيرة السمكة الصغيرة، فينتفي مبدأ منع الإحتكارية الذي تشدد عليه الوزارة كواحد من أهداف هذا المرسوم وصدوره، خصوصاً أنّ «الديك» أو المزود الأخير للخدمة في الحي سيبقى واحداً، بينما هو سينفتح على أكثر من شركة تزوده بالسعات.
مزيد من تفريغ المؤسسات
هذا في وقت يكشف المصدر عن مكتب ISP استحدث لتنفيذ هذه المهمة ويشرف عليه أحد مستشاري الوزير ممن يشغلون منصباً في شركة لنقل المعلومات، وهو ما يطرح الأسئلة حول وظيفة هذا المكتب بظل الدور المنوط بالأساس بالمديرية العامة للصيانة والإستثمار، تماماً كما يطرح السؤال حول سبب توقيع عقود صيانة مع مشغلين لتنفيذ مهمة هي من صلب المهمات التي حمّلت لهيئة أوجيرو. إلا إذا كان المقصود مزيداً من تفريغ المؤسسات من مهماتها وأدوارها، لوضعها بيد القطاع الخاص.
لم يعد خفياً حتى الآن أنّ وزارة الإتصالات لم تتمكن من تحقيق خطوات متقدمة لتنفيذ هذا المرسوم. وهذا ما دفع الوزير القرم للتلويح بخطوة تكليف شركات الـISP التي أعلن عنها في تشرين الثاني، والتي تعترضها أيضاً صعوبات لجهة تعاون الشركات المرخص لها، وخصوصاً بعد ما كشفه القرم في حديث تلفزيوني عن عدد المتعاونين والذي بلغ 59 شركة من أصل 106 مرخص لها.
إلّا أنّ تلويح القرم بتحويل المعنيين بالمرسوم 9458 للقضاء المالي، يكشف أيضاً عن الباب الموصود تجاه مبادرته من قبل هذه الفئة، على رغم كل التطمينات التي يحاول أن يقدمها لهؤلاء لجهة إدخالهم كشركاء في تأمين الصيانة للشبكة التي قاموا بتأسيسها. فالوزير برأيهم يريد أن يحوّلهم إلى القضاء بعد أن يستولي على شبكاتهم. وفيما يؤكد القرم أنّ القضاء ليس سوى ممر لتحديد الحقوق والواجبات، تأخذ المصادر الخبيرة عليه عدم لجوئه منذ صدور المرسوم لإستشارة قضائية مسبقة تبدد الشكوك حول مساعي الوزارة لوضع يدها على ممتلكات خاصة يصونها الدستور. الأمر الذي نبّهت إليه أيضاً هيئة التشريع والإستشارات التي لجأ القرم لإستشارتها في العقود النموذجية التي ينوي توقيعها مع مالكي هذه الشبكات غير المرخصة.
عناصر إفشال المرسوم
تحمل هذه التعقيدات وفقاً لمصادر خبيرة عناصر إفشال المرسوم 9458، خصوصاً وأنّ تطبيق المرسوم لا يعفي الوزارة عبر المؤسسات التابعة لها من تأدية مسؤولياتها التي تحول دون إضفاء شرعية على الشبكة المضبوطة متى جرى التعاقد مع مشغليها. وتشترط أن تكون الحلول المطروحة مؤقتة ولفترة قصيرة وإنتقالية. هذا الأمر يوضحه ديوان المحاسبة أيضاً في إجابة على رأي إستشاري طلبه القرم منه حول العقود النموذجية التي ينوي توقيعها مع «ديوك الأحياء»، والذي يكشف أيضاً عن تعقيدات أخرى لم تنجح الوزارة بتبديدها، ولا سيما في ما يتعلق بتصفية الحسابات مع هذه الشركات، والتي تحاول الوزارة أن تخضعها لنظام المقاصة، عبر حسم تكاليف الصيانة التي تنوي تسديدها لأصحاب الشبكات مباشرة من الرسوم المستوفاة منها، الأمر الذي اعتبره الديوان مخالفاً لقاعدة الشيوع والشمول اللتين توجبان تسجيل الإيرادات برمتها وقيد النفقات كلها، من دون أي مقاصة بينهما، ومن دون تخصيص إيراد معين لنفقة معينة. في وقت تتحدث المعلومات عن محاولة إلتفاف تجري للحفاظ على هذه الآلية وإنما بإستراتيجيات مغايرة.
هذا في وقت ترى مصادر خبيرة أنّ سير الوزير بقراره تكليف شركات الـ IST المخالفة، يبدد الحاجة لكل هذه العقود، لا بل يشكل الطريق الأسهل الذي يضمن إستيفاء الوزارة لثمن السعات المباعة، طالما أنّ الوزارة في الحالتين غير طامحة، أو أقله غير قادرة على إنهاء ظاهرة «إنترنت الحي» الذي أصبح رديفاً لـ»موتور الحي»، وتتخوف من أنّ مكافحته من شأنها أن تولد ثورة شعبية بوجهها، طالما أنها لا تملك بديلاً شرعياً موازياً، أقله في المرحلة الحالية.