ركز مؤتمر «إحياء اقتصاد لبنان» الذي نظمه المركز اللبناني للدراسات بالتعاون مع مؤسسة فريدريش ناومان، على اربعة قطاعات: اقتصاد المعرفة والصناعة والرعاية الصحية والزراعة. وتناول العقبات والتحديات التي تحول دون نهوض هذه القطاعات في زمن الأزمة. منها تدني القدرة الشرائية للمستهلك اللبناني، صعوبات تشغيلية يعانيها أرباب العمل، غياب خطوط الائتمان المصرفية. فضلاً عن الثغرات التي كانت تعاني منها هذه القطاعات قبل الانهيار في 2019، نتيجة تلكؤ رسمي في المعالجة الصحيحة للمشكلات التي تعترضها.
إفتُتح المؤتمر بنقاش مع أهل الاختصاص، استناداً الى الأبحاث والتوصيات المقدمة منهم وخبراتهم في مجال العمل، حول تحديات تواجهها القطاعات المذكورة أعلاه للمساعدة في توجيه لبنان نحو الانتعاش الاقتصادي.
بداية كلمات ترحيبية لمديرة البرامج في مؤسسة فريدريش ناومان مي المصري، وللمدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات مكرم عويس، ورئيس مجلس الادارة في المركز الدكتور محمد عالم، الذي أشار الى أن «المؤتمر هو نتاج عمل على مدار السنتين الماضيتين حول المحاور الاربعة التي تمّ نقاشها، وعلاقة هذه القطاعات بتطوير المناهج التعليمية وتأهيل البنى التحتية، وتطوير قطاع الاعمال وتوجيه سوق العمل والحد من هجرة الادمغة ومحاربة الفساد والبطالة، وتفعيل النظام الضريبي واعادة بناء قطاع المصارف وتنويع مصادر التمويل وتطبيق القوانين»، معدداً الاصلاحات المطلوبة وهي»قوانين المنافسة والكهرباء والمياه والاتصالات، وتعزيز العلاقات مع العالم ولا سيما دول الخليج وزيادة امكانات التصدير، وغيرها من الاصلاحات البنيوية التي يجب أن تترافق مع استقرار سياسي وحس رفيع بتحمل المسؤولية لدى الوزراء والنواب والموظفين والقضاة». وختم بالقول: «انها الحاجة الى نهضة المجتمع بأكمله، والا الاستمرار في السقوط نحو هاويات لا يمكن الخروج منها لعشرات السنين».
إقتصاد معرفة فاقد للتوازن
عقدت جلسة حملت عنوان «اقتصاد المعرفة يفقد توازنه». وتمحور النقاش فيها حول «اقتصاد المعرفة باعتباره الهيكل الأساسي الفكري الذي تنطلق منه عملية إنتاج المعرفة، لتوظيفها في سبيل الإصلاح والمساعدة وتحقيق التقدُّم».
وعرض المتحدثون «كيف أدّت الأزمات إلى تقليل الموارد الفكرية الضرورية للتعافي الاقتصادي»، وطرحوا «العديد من الإصلاحات الأساسية لتعزيز الإنتاج المستدام للمعرفة بمدخلاته ومخرجاته»، لافتين الى أن «الابتكار، يُعَدّ من المتغيّرات التي تُحدّد جودة الأفكار والمناهج التي يتمّ استخدامها وإنتاجها. فبحسب تصنيفات مؤشر الابتكار العالمي للعام 2021، تراجع تصنيف لبنان بالنسبة للمرتبة التي كان يحتلها في العام 2015. فبعد أن كانَ لبنان يحتلّ المرتبة 74 من أصل 141 بلداً في تصنيفات مؤشر الابتكار العالمي للعام 2015، أصبحَ في المرتبة 92 من أصل 132 في عام2021».
وأشار المتحدثون الى أن «هذه النتائج مستندة على العديد من الأبعاد الاقتصادية، بما فيها البنى التحتية، والمخرجات الإبداعية، ورأس المال البشري، والبيئة البحثية والتعليمية والسياسية. اذ يُصنَّف لبنان ضمن البلدان الأقلّ مرتبةً على الصعيد العالمي لناحية خدمات البنى التحتية، ونسبة تبنّي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بما في ذلك مؤشر المعرفة العالمي للعام 2021، ومؤشر الابتكار العالمي للعام 2021، والمؤشر العالمي لتنافسية المواهب للعام 2022. ويقفُ هذا الواقع عائقاً أمام المشاركة في الأسواق الإبداعية والتنافسية على المستوى العالمي، كما انه يحدّ من الوصول إلى حقوق الإنسان الأساسية في التعليم والمعلومات».
رأى المتحدثون أن «هشاشة العوامل الضرورية لاستدامة الاقتصاد المعرفي، من أجل النمو والتعافي من الكوارث- أو حتى غيابها التامّ- هي مسألةٌ مرتبطة، إلى حدّ كبير، بالحوكمة والمؤسسات الحكومية التي ينخرها الفساد الممنهج والنظام السُلطوي السياسي»، ولفتوا الى أنه «في إطار «مؤشر مدركات الفساد» لعام 2021، يحتلّ لبنان مرتبةً متدنّية كونه صُنِّفَ في المركز 154 من أصل 180 بلداً» (مؤسسة الشفافية الدولية، 2021). كما أنَّ «وحدة التحرّيات الاقتصادية»(2022) خفّضت تصنيف لبنان في «مؤشر الديمقراطية» لعام 2021 من «هجين» إلى «سُلطوي»». وأشاروا الى أن «الحوكمة الفاسدة والسُلطوية تؤدي إلى إعاقة الابتكار والنمو، حين يتمّ اختيار الكوادر على أساس المحسوبيات أو الهوية الدينية أو السياسية بدلاً من الكفاءة والجدارة. وتَظهَر هذه الممارسات بوضوح، وتُعدّ راسخةً أيضاً في القطاعين العام والخاص. بالإضافة إلى ذلك، حالت الخلافات السياسية حول مصالح الطوائف دون إحراز تقدّم في آليات دعم الريادة في العديد من القطاعات وفي إصلاح التعليم».
وشددوا على أن «هذه النزعة في الحوكمة تُسبّب حالةً من الركود في اقتصاد المعرفة، وتمنعه من المساهمة في التعافي والإصلاح. في هذا السياق، يتمتّع أصحاب السلطة بوصولٍ أسهل (أو حصري) إلى الموارد، وبالتالي إلى فُرَص المشاركة في إنتاج المعرفة اللازمة للابتكار والنمو واستخدامها. ففي قطاع الأعمال مثلًا، ثمّة ثلاثة كارتيلات تحتكر تصنيع الأسمنت بدعمٍ من زعماء الطوائف، وتُحدّد الأسعار في السوق منذ عقود من دون الاحتكام إلى أنظمة الدولة (بوسوال ووود، 2020). أضف الى انه غالباً ما يُهمَّش أصحاب المهارات العالية إذا كانوا لا ينتمون إلى طبقة الأثرياء أو لا يتمتّعون بمركز سياسي».
وخلص المتحدثون الى مجموعة توصيات لإضفاء الطابع الديمقراطي على اقتصاد المعرفة في لبنان، من خلال «تدخلات ذات أبعاد متعدّدة، وتشمل الاستثمار في مساءلة الهيئات الحكومية، وتمكين الجهات المعنية كمُنتِجين للمعرفة، والتوثيق العام ونشر المعرفة المنتَجة والمستخدمة، وزيادة الاستثمار العام والخاص في البحث والتطوير كمحرّك للنموّ والتوظيف في المستقبل.
فرص صناعية تحتاج تشجيعاً
أما جلسة «التحديات والفرص في مجال التصنيع»، فعرضت «للتحديات الصعبة والمتعددة التي يواجهها الصناعيون في لبنان، والتي تتراوح بين الأسعار الباهظة للطاقة والاختلالات الهائلة في التوازن المالي»، ولفتوا الى أن «الأزمة قدمت فرصاً محدودة للصناعة على ثلاثة مستويات، الفرصة الاولى تخفيض كلفة العمالة التي تشكّل واحدة من أبرز تكاليف الإنتاج التي يتكبدها الصناعيون اللبنانيون، والثانية هي ارتفاع الطلب المحلي، والثالثة إمكانية أكبر للتصدير».
وقدم المتحدثون توصيات عدة أبرزها أن «الصناعة في لبنان تحتاج إلى التركيز على قطاعات رئيسية قابلة لتحقيق الربح ولديها إمكانية للتصدير معقولة، واعتماد أنظمة وسياسات حكومية محسّنة حرصاً على صمود الصناعة. وإعادة النظر في الاتفاقيات التجارية حرصاً على منفعة الصناعيين المحليين، مع الابتعاد عن فرض قيود كثيرة على السلع المستوردة للحفاظ على المنافسة والجودة العالية للمنتجات المحلية، واعتماد مقاربة حقيقية لضبط التهريب غير الشرعي عبر ضبط الحدود وسياسة الدعم الحكومي، ووضع محفزات للعمل في المناطق الصناعية عبر تحسين البنى التحتية وتخفيض الضرائب على الملكية والضرائب البلدية».
وفي ما يتعلق بالطاقة التي تشكل تحدياً رئيسياً نظراً لأن الكثير من المصانع موجودة في بيروت وضواحيها، أوصى المتحدثون «أنه بإمكان الحكومة المساعدة في التخفيف من أزمة الكهرباء عبر «فتح الشبكة» لكي تأخذ دور إدارة الشبكة مع السماح للشركات الخاصة بتوليد الكهرباء وبيعها لشبكة كهرباء لبنان».
في الزراعة بارقة أمل
وفي الجلسة الخاصة بالزراعة، قال متحدثون: «على الرغم من كلّ هذه التحدّيات، لا يخلو المشهد الزراعي من بارقة الأمل. فمن خلال التقاليد الغنيّة في فنّ الطهي والمأكولات، والإمكانات الفريدة للسياحة الزراعية وتصنيع الأغذية الزراعية، يمكن للقطاع أن يُعوِّل على نقاط القوّة الكامنة فيه للتصدّي للصعوبات والعراقيل الحالية. كذلك، يمكن لآليات التعاون الدولي، والسياسات الحكومية التي تُركِّز على تعزيز البنية التحتية، والاتّفاقات التجارية المُثمرة، أن تدفع عجلة القطاع إلى الأمام نحو الازدهار».
وشددوا على أنه «بالنظر إلى الوضع الراهن لقطاع الزراعة، قد يكون من المفيد إطلاق استراتيجية متعدّدة الجوانب تشمل تعزيز الإنتاج، وتحسين أساليب التسويق، وإعادة الهيكلة التنظيمية، وإعداد السياسات الاستباقية. وينبغي توجيه الجهود نحو بناء القدرات، وتطوير البنية التحتية، وتوفير الدعم المالي، وتبنّي الممارسات الزراعية المتطوّرة. ويُعتبَر تطوير البنية التحتية، وتعزيز فعالية الإجراءات اللوجستية وطرق التعبئة والتغليف، والترويج للصادرات، أموراً جوهرية في مجال التسويق».
بيطار: إقتصاد المعرفة نفط لبنان
يوضح الرئيس التنفيذي لشركة siren Analytics جهاد بيطار أنه «كان هناك تجربة جيدة في لبنان من خلال وزارة الاستثمار والتكنولوجيا لكنها لم تكتمل»، معبراً عن اعتقاده «أن قطاع اقتصاد المعرفة له آفاق كبيرة في لبنان بالرغم من الازمة وله القدرة على خلق فرص عمل، ويمكن ارسال المنتج المطلوب الى الخارج بكل سهولة».
يضيف: «هذا القطاع له مستقبل كبير وهو نفط لبنان البشري، ويؤثر ايجاباً على كل القطاعات الاقتصادية الاخرى ولا يمكن ان نكون بعيدين عنه. والا سنكون في انهيار كامل للاقتصاد اللبناني ولا مهرب من بناء هذا القطاع، وهذا ما يريده القطاع الخاص في لبنان، فالمطلوب هو ان نتعاون بطريقة ذكية، وتكون القرارات التي تتخذها الدولة مرنة ولا تمنعنا من العمل والتطور»، ويعطي مثالاً على ذلك بالقول: «الضرائب التي يلوحون بفرضها على القطاعات من دون ان نعرف ما هي بالتحديد أو أن يؤخذ رأينا بها، وهذا ما يحد من وضع الخطط اللازمة لتطوير شركاتنا ويقلّص من استثماراتنا ورؤيتنا للمستقبل، فضلاً عن غياب بديهيات العمل أي الانترنت مثلاً».
طوق: أسواق جديدة
إعتبر المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة siliconCedars بول طوق، أن «الانهيار الذي حصل في لبنان دفع شركات البرمجة والمعلوماتية للتفتيش عن أسواق جديدة، وهذا ما قامت به شركته»، لافتاً الى أنهم «يصدرون خدماتهم الى الخارج وهناك طلب كبير على المنتج والكفاءة اللبنانية المتخصصة في المعلوماتية وتقبل عالمي لهذه الخدمات».
أبي نصر: للتدريب على المهارات وليس على تلقّي النظريات
يرى عضو جمعية الصناعيين ورئيس تجمع صناعيي كسروان بول أبي نصر أن «هناك انفصاماً بين التعليم المهني ومتطلبات الصناعة في لبنان. فالتعليم المهني في العالم غالباً ما يكون تحت اشراف القطاع الخاص الذي يحدد احتياجاته من التعليم المهني»، مشدداً على أنه «في لبنان هناك ضرورة للتدريب على المهارات وليس على تلقي النظريات حول الصناعة. وهذا يعني أنه يجب التواصل مع القطاع الخاص لمعرفة متطلباته وبشكل متواصل».
وقال: «ما نطرحه هو انه يجب أن تكون هناك لجان مختصة من كل القطاعات الصناعية، تتواصل مع المصانع الرائدة لمعرفة المهارات التي تحتاجها ونقلها للتعليم المهني، وهذه المهارات قد تتغير بحسب الحاجة والاسواق والحيز الجغرافي الذي تتواجد فيه هذه الصناعات، وبهذه الطريقة نؤمن حاجات المصانع من المختصين ونعطي المهنيين هامشا أكبر للتطور والحصول على المردود المادي الذي يستحقونه».