ساوى الانهيار المالي بين الضواحي الفقيرة، بعشوائيتها وفوضاها، وبين المدن والضواحي «المدلّلة». هكذا، مثلاً، «تعرّف» سكّان بيروت الإدارية، حيث لم يكن انقطاع الكهرباء يتعدى الساعات الثلاث نهاراً فقط، إلى «عالم» المولّدات، و«تسلّل» أصحاب «سيترنات» المياه إلى أحياء لم يدخلوها أبداً. وعليه، باتت كلفة الإقامة في المناطق «المنظّمة» أعلى بطبيعة الحال. ولكن هل هي أعلى من الإقامة في الضواحي أو العشوائيات التي كانت تعاني أساساً من شحّ الخدمات بسبب غياب التنظيم المَديني؟
يُفترض أن يكون تهاوي الخدمات أخفّ وطأة على سكان الضواحي، «كونهم اعتادوا على غياب خدمات الدولة ونمّوا قدرتهم على تدبير أمورهم عبر بناء شبكة علاقات مع أصحاب المولدات والمياه وغيرهما من الخدمات»، على حدّ تعبير منسّقة برنامج الدراسات العليا في التخطيط المدني والسياسات والتصميم في الجامعة الأميركية في بيروت منى فواز. إلا أن الخبير في التخطيط الحضري ليفون تلفزيان يعتبر أن سكان المدن يتحملون العبء بشكل أفضل من سكان الضواحي والأطراف، بسبب «كثافة الخدمات التي تصبّ بطبيعة الحال حيث كثافة السكان… وكلما ابتعدنا عن الوسط، قلّ المدخول، وتضاعف العبء» لأن «التنظيم المَديني والكثافة السكانية يخفّفان من التكاليف الطارئة ويسهّلان التعامل مع الأزمات. مثلاً، تكاتف أصحاب الشقق المشتركة في مبنى معين يسهّل عليهم تدبّر أمورهم لتأمين المياه والكهرباء أكثر من عائلة تقيم في منزل في الضواحي ما يتطلب منها بذل جهود مضاعفة».
والضواحي، وفق مفهوم تلفزيان، لا تعني فقط المناطق التي تزنّر بيروت الإدارية بل تشمل كل المناطق التي تبعد عن المدن الرئيسية، «وعليه، فإن سكان المدن بسبب ارتفاع مداخيلهم وطبيعة الخدمات والتنظيم التي يحظون بها، فضلاً عن قرب إقامتهم من عملهم، لديهم قدرة على التعامل مع الكارثة بطريقة أسهل».
لكنّ الحديث العام عن المدن الرئيسية وطبيعة التنظيم المَديني «المفترض» لا يستقيم في الحالة اللبنانية، ذلك أن التمدد العمراني السريع الذي شهده لبنان (زادت مساحة المناطق الحضرية من 221 كلم مربعاً عام 1963 إلى 741 كلم مربعاً عام 2005 ويتوقع أن تصل عام 2030 إلى 884 كلم مربعاً وفق تقديرات برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية) بسبب عوامل الحروب والهجرة والنزوح من الريف، لم ترافقه أي خطط تأخذ في الاعتبار مبادئ التنظيم المَديني. علماً أن نحو ثلثَي الأراضي اللبنانية غير منظمة، وفق نقابة المهندسين. من هنا، ترى فواز أن النقاش لا يجب أن يكون محصوراً بتحديد الفئة المتضررة أكثر من الانهيار حسب مكان إقامتها، لأن الكلفة الاقتصادية لغياب التنظيم المَديني كبيرة على كل المقيمين وتؤثر على اقتصاد البلاد عموماً، «بل علينا مناقشة مصير مشروع النقل العام الذي يُشكّل حاجة ملحة للمقيمين بشكل عام ولطبيعة الواقع العمراني في البلاد بشكل خاص»، إذ إن غياب الاستثمار في البنى التحتية والنقل العام الحضري على مرّ عقود ساهم في تقطيع أوصال بيروت فضلاً عن الإهمال المتعمّد للسياسات المَدينية ما أدى إلى الفوضى التي «تكشّفت وجوهها في الانهيار حالياً». لذلك، الأهمية القصوى اليوم هي لإعادة طرح مشروع النقل العام «كخطوة أساسية لتدارك مسار الهاوية، خصوصاً للمقيمين في الضواحي الذين يعانون أكثر من غيرهم في الوصول إلى أماكن عملهم».
في 15 آذار 2018، وافق البنك الدولي على حزمة تمويل بقيمة 295 مليون دولار للمساهمة في إصلاح قطاع النقل المتهالك في لبنان، و«خلْق فرص عمل لآلاف العمال اللبنانيين والسوريين غير المهرة». حينها، قال القيّمون على مشروع النقل العام في بيروت الكبرى إنه يهدف إلى «إطلاق أول شبكة مواصلات عامة حديثة في البلاد منذ عقود، وتخفيف التكدّس المروري الخانق على الطرق اللبنانية، ومشاركة القطاع الخاص في تمويل أحد قطاعات البنية التحتية الحيوية». وفيما كان من المفترض أن يحصد اليوم لبنان «زرع» هذه الأموال، ها هو اليوم يعيش التخبّط نفسه بسبب صرف غالبية المخصّصات له، أوضح وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية قبل أيام أن «النقاش مستمر» مع البنك الدولي لتمويل مشروع النقل المشترك على كلّ الأراضي اللبنانية.
وحل أزمة النقل لا يتعلق فقط بأزمة المحروقات المستجدّة، بل هو يتعداها الى الحاجة لـ «ترك» المدن والعودة إلى الأرياف، «لأن معالجة ملف الإسكان تُعد أمراً أساسياً لتحريك النهوض الاقتصادي»، وفق ما صرّح سابقاً رئيس المؤسسة العامة للإسكان روني لحود، مشدّداً على ضرورة عدم التشجيع على السكن في بيروت، في خطوة أساسية لإعادة تصويب واقع السكن الحالي.