في شمال لبنان، تبرز ظاهرة البترون كعنوان سياحي بالغ الجاذبية. سحر بحري وصخب ليلي في زمن الانهيار.
الجميع يريد التوجه إلى البترون. الشباب يقصدونها ليستمتعوا بكل ما يمنحه شاطئها، وليمارسوا الرياضات المائية، أو ليحتفلوا ويرقصوا في شوارعها النابضة بالحياة برفقة موسيقيين يعزفون ويغنون على الأرصفة. العائلات تأتي إلى هنا للاستجمام والراحة، أو لولائم نهايات الأسبوع في المطاعم المتكاثرة.
مناخات البلدة الرومانسية، في كل الفصول، تمنحها طابعاً متوسطياً بات منحسراً عن لبنان في السنوات الأخيرة. حتى أصبحت البترون محتشدة في النهار والليل وحتى مطلع الفجر.
ومع كل مقيم أو زائر تائه في شوارعها، تروي البترون قصصاً عديدة..
“موناكو” اللبنانية
البترون مدينة سياحية متواضعة، منذ أواسط السبعينيات، كانت محطة لليموناضة والآيس كريم والاستراحة لكل العابرين نحو الشمال ومنه. في أواخر التسعينيات تحولت إلى محطة للحياة الليلية. خبت بعدها قليلاً مع انتعاش بيروت، لتعود وتزدهر بعد “تصحّر” وسط العاصمة نتيجة العوامل المعروفة. هذا التصحّر كما التحولات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية في بعض المناطق اللبنانية، خصوصاً الجنوب، ساهم في تضييق المساحات، وجعلت الحركة السياحية تتجه شمالاً. خصوصاً وأن للبترون مقومات سياحية مهمة، أبرزها المعالم الأثرية مثل السور القديم، والكنائس التاريخية، إضافة لطبيعتها والعمارة التاريخية والتراثية فيها. إلى هذا، تضاف التسهيلات الكثيرة التي أعطيت للمستثمرين، ما اجتذب كل الباحثين عن بدائل لبيروت وللأماكن السياحية التي خبا وهجها.
نستذكر هنا ذاك القول: “حتى الساعة المعطلة تكون صحيحة مرتين في اليوم”، لندل على أنه مع استغلال النفوذ السياسي، نجح “رجل الأعمال” والمهندس جبران باسيل في تهيئة البترون ببنيتها التحتية لتكون عنواناً سياحياً من الطراز الأول. فمن إعادة ترميم بيوت البترون الأثرية، استلهاماً ومنافسة لمدينة جبيل التي كانت القبلة السياحية الأبرز، إلى تشجيع الاستثمار السياحي، من مطاعم وحانات وشاليهات ومنتجعات، وتقديم تسهيلات التنقل عبر “التوك توك” وما شابه، وتنظيم الحفلات والمهرجانات التي تشعل الحياة الليلية، في طموح لأن تكون كإمارة موناكو، منفصلة عن مناخات لبنان الكئيبة.
وربما بدافع من تهويمات الفيدرالية وطروحات اللامركزية، ومع ازدياد أهميتها كمركز للحياة السياحية والترفيهية، أصبحت البترون مركز ثقل أساسي لمنطقة الشمال، وبالمعنى الاقتصادي أيضاً. إذ لم تعد فقط مقصداً لأهل طرابلس ومحيطها بل يأتونها من صيدا مثلاً. فهي هنا “المتنفس” لمن يريد الخروج من البيئات المحافظة.
وجهة الشباب اللبناني
يتوجه الشباب اللبناني إلى البترون، في رحلة تستغرق ساعة تقريباً من بيروت، بحثاً عن الرفاهية وأجواء تشبه إلى حد ما الجزر اليونانية مثلاً، سواء في حميمية شوارعها، أو بتنوع مطاعمها ومقاصفها البحرية ومقاهيها الهادئة، وشواطئها النظيفة والمنظمة. كما أن الهندسة المعمارية النموذجية للمدينة، بمنازلها الحجرية ومعالمها التراثية والتاريخية، تضفي جمالية استثنائية على المكان.
للوهلة الأولى، عند زيارتها، تبدو البترون بعيدة كل البعد عن قسوة الأزمة الاقتصادية، والاضطرابات الأمنية التي تعصف بالبلد. كأنها بالفعل جزيرة حيث يمكن للناس فيها تناسي الأزمات العاصفة في البلاد.
“أشعر كإنني مسافرة”، هكذا عبّرت داليا العشرينية، عن وجودها في البترون، هي القادمة من صور لتسبح في بحر البترون، وهي التي كانت منطقتها تشتهر ببحرها..
ليس الوضع الأمني فقط، الذي دفع بداليا لتأتي إلى البترون. إذ تقول أيضاً “في البترون لا مجال للملل، النشاطات التي تزخر بها، توفر لزائرها الكثير من الخيارات المتنوعة. هواة اكتشاف الآثار كما محبو السهر أو السباحة، أو متذوقو الأطعمة اللبنانية المشهورة”. وتضيف: في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ولأننا لم نعد نتمكن من السفر كل سنة، ولأن الوضع الأمني في خطر، البترون هي الواجهة الآمنة، في ظل كل ما يحدث”.
الأهالي بين مرحب وغاضب
البيوت السكنية تحولت بمعظمها الى إقامات فندقية بإيجار يومي، والدكاكين العتيقة صارت بوتيكات أو مشرباً. والاستثمارات العائلية القديمة تكاد تختفي لحساب الاستثمارات كبيرة. حتى الشواطئ العامة التي كانت مفتوحة لأهل البترون وزوارها، اجتاحتها الاستثمارات السياحية. فهل جاء ازدهار البترون السياحي على حساب أهلها؟
في هذه المدينة التي أصبحت المكان المحبوب للمغتربين اللبنانيين والسياح، تظهر بترون أخرى وسط الحشود. سكانها الذين يكدحون من أجل تلبية احتياجات الزائرين. سكان لم يعودوا يعرفون بلدتهم، يغزوهم من يسمونهم “الأجانب”، حتى عندما يكونون لبنانيين.
في الصباح الباكر، وفي أحد أحياء المدينة شبه الخاليّة، تجد العمّ طوني، الذي يبلغ من العمر 70 عامًا، جالسًا بالقرب من سيارته التاكسي، المتوقفة والمغطاة بالغبار. لم يستخدمها منذ فترة طويلة. فقد طوني، وهو سائق سيارة أجرة سابق، وظيفته منذ انتشار وسائل النقل الجديدة في البترون “التوك توك” وسيارات “الغولف” في السنوات الأخيرة. “إنهم دجالون! في بضع دقائق، يقبضون ثروة..”، احتج السبعيني. يُذكر أن ساعة في وسائل النقل هذه تكلف بين 15 و20 دولارًا.
مع اقتراب ساعات الظهيرة، وبينما بدأت المطاعم بفتح أبوابها لاستقبال روادها للغذاء، بدأ سوق البترون يعج بـ”التوك توك”، والدراجات و”السكوتير”. وفجأة، ظهرت امرأة أربعينية تقود سيارتها، وهي تصرخ بغضب “رح تهجرونا من منطقتنا، زيحوا!”
قررت سوزان الانتقال من مسكنها السابق إلى بترون الضيعة على التلال، لأنها لم تعد قادرة على تحمل الزحمة اليومية، ليلاً ونهاراً. وتأتي كل فترة إلى بيتها السابق في السوق لتستفقده. تعبر عن مشاعرها قائلة: “نسي الناس أن البترون قرية وليست مدينة. ولكن ما باليد حيلة”.
التقينا فؤاد، الذي عرضوا عليه عدة مرات شراء منزله في السوق القديم، لكنه رفض. “هذا كل ما أملك” يقول فؤاد، وهو موظف دولة لم يعد راتبه يساوي شيئاً. “إذا غادرت البترون، سأموت”، يقول. ويكمل “نحن نبذل كل جهدنا لكسب لقمة عيشنا من خلال موقعنا، فزوجتي تبيع السندويشات للاستفادة من قدوم السياح” وختم قائلاً: “اشتغل جبران..”.
بالمحصلة، ورغم التناقضات حول مآلات هذه المدينة الصغيرة ومن يقطف ثمار ازدهارها، وردود فعل سكانها الفرحين أو المنزعجين، يمكننا عبر صورة البترون تخيل ما يمكن أن يكون عليه لبنان ككل، من أقصى جنوبه إلى شماله، لو أن البلاد بأسرها تتفتح بجمالها الطبيعي والثقافي ليكون واحة للسلام والازدهار.
لكن.. الواقع لا يشبه ذاك التخيّل. وعلى الأرجح، سنظل مكتفين ببعض تلك الجزر التي نهرب إليها.