في ظل الشح في الموارد العامة والموازنات من المهم على المجالس البلدية أن تنظر إلى الفرص المتاحة لها لتطوير استراتيجيات مالية، مواجهة مخاطر العجز المالي وتنفيذ هذه الاستراتيجيات في البلدية، وفق مسار الطرح الاستراتيجي وتطوير أساليب في الإدارة والجباية لخفض التكاليف من جهة، وزيادة المداخيل من جهة أخرى، مع متابعة تطور حاجات المواطنين من أجل توقع النفقات المستقبلية بحيث تترافق الزيادات الضرائبية بتحسينات في الخدمة العمومية.
تعدّ البلدية القاعدة الرئيسية للنسيج الاجتماعي والاقتصادي، وهي تؤدي دورًا محوريًا في تلبية الحاجات الحيوية للمواطنين، وتجسد الدور الوسيط بين الدولة والمواطن، ولا سيما في ما يتعلق بضمان تحقيق أبعاد المواطنة والحقوق. وتسمح المسافة القريبة بين البلدية ومواطنيها بتحديد أفضل لحاجاتهم وتسهيل ترجمة سياسة الدولة المتعلقة بدعم التنمية المحلية.
من ناحية أخرى يتوجب على البلدية تحقيق توازن بين إيراداتها ونفقاتها. لكن الحاجات المتنامية للمواطنين تؤدي إلى تزايد مضطرد للنفقات، وهو ما يوقع البلدية في كثير من الأحيان في عجز مالي قد يستمر لسنوات متعددة. إن توالي عدم الاستقرار المالي في لبنان، يجعل من الضروري إجراء مراجعة جذرية لنظام تمويل البلديات من جهة ولمراجعة بديهيات المالية المحلية من جهة أخرى، بحكم أن البلدية أصبحت كغيرها من المنظمات الربحية وغير الربحية معرضة للإفلاس.
إن هذا الواقع يجعلنا نلفت النظر إلى ضرورة تبني البلديات استراتيجية مالية تتيح لها تلبية حاجات المواطنين على نحو أفضل في موازاة المحافظة على سلامة الأداء المالي. من هنا نرى من المفيد دراسة النفقات والإيرادات ومصادر التمويل.
واقع النفقات والإيرادات
تتميز موانة البلديات عن موازنة بقية الإدارات والمنظمات العامة الأخرى بحيث تعكس بصدق أنشطتها الرئيسية المتمثلة أساسًا بنفقات موجهة لتوفير المرفق العام والخدمة العمومية للمواطنين.
تقوم البلدية بأنشطة متعددة تهدف إلى تلبية الحاجات الحيوية، وأحيانًا الحاجات الكمالية للمقيمين. نستعرض في ما يلي أهم الأنشطة البلدية التي تترتب عنها نفقات عمومية تستدعي من المجلس البلدي أن يتبنى استراتيجية متكاملة لتطوير طرق تسيير ملائمة لهذه الأنشطة، تمويل مناسب وضمان الإفادة لكل فئات المجتمع:
أنشطة تسيير العمران والتهيئة الحضرية، تهيئة وتنظيم الأسواق البلدية وتنظيم التجارة وتدعيم الرقابة على الأنشطة الاقتصادية، جمع النفايات المنزلية ومعالجتها، توزيع مياه الشرب، الإنارة العمومية، تعبيد وتطوير الطرق والأرصفة، النقل الحضري، دعم القطاعات كالزراعة والصناعات المحلية وأصحاب المهن الصغيرة، النشاطات الاجتماعية والصحية والمراقبة البيئية، تطوير مساحات الترفيه والتسلية والحدائق العمومية.
موارد شحيحة
تبين معظم الدراسات القانونية والمالية للبلديات أن الموارد المالية الرئيسية تتأتى من إيرادات الجباية العادية، ويرصد نظام الجباية للدولة نوع الضرائب والرسوم والنسبة التي تحصل البلدية عليها. كما أنه يعبر عن مدى إرادة سياسية فعلية لتحقيق الاستقلالية المالية للبلدية ومستوى تطبيق اللامركزية.
إلا أن التطبيق يلحظ عدم وجود منهجية واضحة ومحددة وطريقة شفافة لاحتساب الأموال المستحقة للبلديات سواء من ضرائبها المباشرة أو من تحويلات الصندوق البلدي المستقل والمؤسسات العامة.
حدد المشرع نسبًا متفاوتة لبعض الرسوم والضرائب إلى البلدية، منها: الرسم العقاري، رسم الإقامة، الرسم على اللافتات واللوحات المهنية، الرسم على الحفلات واستعمال الحدائق العامة ورسوم أخرى، لكنها تبقى رسومًا ضئيلة، في حين تتقاسم البلدية مع الدولة رسومًا أخرى، وبعض الضرائب، كالضريبة على الأملاك والرسم على القيمة المضافة وغيرها..
يتبيّن من حجم الإيرادات البلدية في المناطق الحضرية في لبنان بأن إيرادات الجباية ليست كافية لتغطية نفقات البلدية ولا تتيح تحقيق الاستقلالية المالية للبلديات. وقد احتاط المشرّع لهذا الأمر فأكد على ضرورة تدخل الحكومة لتغطية العجز المالي، كما أعطى للبلدية إمكان الاقتراض رغم أنه غير مطبق معظم الأحيان في الحالة اللبنانية.
قياس الأداء البلدي والمعايير
يطرح موضوع قياس أداء البلدية عددًا من التساؤلات بحكم صعوبة تقييم العمل البلدي. يمكن في أن نميز أداء البلدية بقيامها بمشاريع تشجع التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومعدل تطور الاستثمارات فيها، العمومية منها والخاصة. لكن في الواقع فإن الأداء المتحقق في البلدية ينسب عادة إلى فاعلية القيادة الممثلة برئيس البلدية ومجلسها المنتخب.
بالاعتماد على أبحاث سابقة كما التجارب يمكن تمييز مجموعة من المعايير لتعريف أداء البلدية المعبر عنه بمصطلح الأداء العمومي المحلي:
– إنجاز الأهداف المحددة التي تعبر عن الرؤية الاستراتيجية للمجلس البلدي
– فاعلية استخدام الإيرادات المالية عبر التحكم في النفقات
– تفعيل آلية المحاسبة العمومية وقوانين الصفقات العمومية
– تلبية حاجات المواطنين مما يساهم في تحفيزهم على تقبل دفع الضرائب.
الفرص الضائعة
يمثل تمويل العمل البلدي أحد أبرز التحديات التي تواجه البلديات في لبنان، نظرًا لعدم وجود منهجية واضحة ومحددة تمكن البلديات من تحصيل إيراداتها سواء من ضرائبها المباشرة أو من تحويلات الصندوق البلدي المستقل والمؤسسات العامة الأخرى. تكمن هذه المشكلات أساسًا في انعدام الشفافية في طريقة احتساب الأموال المستحقة للبلديات، تدني الجباية وعدم وجود آليات تمويل مدروسة المخاطر ومنسقة بين الجهات المانحة كافة.
يحدد قانون البلديات (المرسوم الاشتراعي رقم 118 تاريخ 30/6/1977) مختلف مصادر التمويل المتاحة للبلديات وذلك من خلال المادة 86 منه، وهي على النحو التالي:
– الرسوم التي تستوفيها البلدية مباشرة من المكلفين: هي الرسوم التي تفرضها البلديات بنفسها وضمن نطاقها الجغرافي وهي تتضمن أربعة عشر نوعًا من الرسوم والعلاوات، موزعة كالتالي: القيمة التأجيرية، أمكنة الاجتماع، الإعلانات، المحلات المصنفة، الترخيص بالبناء، المزايدات، إشغال الأملاك العمومية البلدية، الذبيحة، احتراف المهن بالتجول، الدخول إلى الأماكن العامة البلدية، تسجيل عقود الإيجار، المجارير والأرصفة، الإفادات والبيانات والدروس الفنية، وأخيرًا الرسم على التعويض الناشئ عن التحسين (تم تحديدها في قانون الرسوم والعلاوات البلدية رقم 66/88 تاريخ 12 آب 1988). وإجمالا يعتبر الرسم على القيمة التأجيرية ورسم ترخيص البناء من أهم المصادر الذاتية لتمويل البلديات في لبنان.
– الرسوم التي تستوفيها الدولة من خلال المصالح المستقلة أو المؤسسات العامة لحساب البلديات ويتم توزيعها مباشرة لكل بلدية. نذكر منها الإيرادات المتأتية من رسوم استهلاك الكهرباء، الإيرادات المتأتية من رسوم استهلاك المياه، الإيرادات المتأتية من اشتراك الهاتف الثابت، الإيرادات المتأتية من اشتراك الهاتف الخلوي.
– الرسوم التي تستوفيها الدولة لحساب جميع البلديات. وتشمل الضرائب والرسوم الضريبية على الأملاك المبنية للعقارات الواقعة ضمن نطاق البلديات، رسوم التسجيل العقارية وضريبة الدخل، رسم الانتقال على التركات والوصايا والهبات، الرسوم الجمركية على السلع المستوردة، أقساط عقود التأمين، الضريبة على أرباح المهن الحرة والصناعية وغير التجارية، رسوم المحروقات السائلة، رسوم تسجيل السيارات والمركبات الآلية والدراجات، رسوم التبغ والتنباك المعد للاستهلاك الداخلي. يتم احتساب هذه الإيرادات في وزارة المالية حيث تقتطع حصة البلديات وتحول مباشرة إلى الصندوق البلدي المستقل.
لا تحول الأموال إلى البلديات إلى حين صدور المرسوم الخاص بتوزيع العائدات موقعًا من وزيري المالية والداخلية والبلديات. وهنا لا بد من الإشارة أنه يفصل بين تحقيق الإيرادات الفعلي وصدور المرسوم فترة زمنية طويلة قد تتجاوز السنتين، بالإضافة إلى تأخير كبير في تنفيذ التحويل الفعلي من جانب وزارة المالية، وهذا ما يسبب تباطؤًا في نمو إيرادات البلديات مقابلة بتزايد نمو إيرادات الدولة. كما يحدد المرسوم رقم 1508 تاريخ 5/3/2015 اسميًّا الحصة المالية للبلديات بنسبة 88 في المئة ولاتحادات البلديات 12 في المئة، بعدما يقتطع منها 5 في المئة لحساب المديرية العامة للدفاع المدني.
دور الجهات المانحة
تعتمد معظم المؤسسات الدولية والجهات المانحة والجمعيات الأهلية البلديات كشريك أساسي في المشاريع التنموية التي تقوم بها على المستوى المحلي. وقد باتت المشاريع الممولة من تلك الجهات مصدرًا مهمًّا من مصادر التمويل المتاح حاليًا للبلديات في ظل الشح الحاصل في الموازنات. ولا يوجد نسبة محددة لهذا التمويل بالمقارنة مع موازنة الدولة. وبالتالي فقد اعتمدت بعض البلديات هذه المصادر كأساسي لتمويل المشاريع وتركت الموازنة العامة لتغطية المصاريف العامة للبلدية.
من ناحية أخرى يجيز قانون البلديات ولا سيما المادة 86 القروض وتمثل جزءًا من عائدات البلدية، كما المادة 49 أيضًا التي تشير إلى أن صلاحيات المجلس البلدي تشمل القروض على أشكالها لتحقيق مشاريع معينة. لكنها تلحظ التنازل عن بعض عائدات البلدية الآنية والمستقبلية للمقترض أو للدولة، لقاء كفالتها القرض وإدراج الأقساط المستحقة سنويًا في الموازنات البلدية المتتالية طوال مدة القرض. كما أخضعت المادة 62 من القانون عينه القروض لمصادقة وزير الداخلية. نذكر هنا أنه لم تسجل سوى حالات معدودة من هذا الاقتراض الذي تمّ بكفالة الدولة.



