التجارة مع الدول العربية: فرص ضائعة

من أهم الميزات التفاضلية التي كانت يتمتع بها لبنان في البعد التجاري في السابق هي قدرته على التصدير إلى الدول العربية، وخصوصاً دول الخليج. تبدّدت هذه الميزة على فترات عدّة، بداية من عدم وجود سياسات إنتاجية في المرحلة التي لحقت الحرب الأهلية، والذي انعكس على القدرة التصديرية للبنان، ثم في الاتفاقات التجارية مع الجوار العربي التي أصبحت محط نقاش بين الاقتصاديين في لبنان حول جدواها وانعكاسها على صادرات السلع اللبنانية، وأخيراً مع الحرب السورية التي انفجرت في 2011 وقطعت الطريق البرية التي تربط لبنان بالدول العربية، إذ كانت العامل الأخير الذي أسهم في تراجع التجارة بين لبنان والدول العربية.تُمثّل الأسواق العربية فرصة للمنتجين اللبنانيين للتسويق لسلعهم على مختلف أنواعها، وخصوصاً السوق الخليجية التي يمكن أن تكون مصدراً مدرّاً للعملات الأجنبية، لأنها سوق تتمتّع بحجم طلب مرتفع وتمتلك الكثير من الموارد المالية. ويستفيد لبنان من الأسواق العربية لبيع سلعه، إذ إنه بحسب تقرير أصدرته «إسكوا» أخيراً بعنوان «التجارة العربية في عام 2023: اتجاهاتها وملامحها الرئيسية»، يظهر أن 75% من صادرات القطاع الزراعي اللبناني تذهب إلى الدول العربية، بينما تذهب 37% من صادرات الصناعات الغذائية إلى الدول العربية. اللافت أن أرقام لبنان تشير إلى أنه في وضع أفضل من السودان الذي يُصدّر إلى الدول العربية نحو 61% من صادراته الزراعية، إلا أنه في وضع أسوأ من الأردن الذي يُصدّر نحو 85% من صادراته الزراعية إلى الدول العربية.

ومع أن هذا الأمر يُظهر اعتماد الصادرات الزراعية اللبنانية على الأسواق العربية، إلا أن هذا المؤشّر وحده ليس مقياساً. بل يجب النظر إلى الحركة الإجمالية للصادرات والواردات اللبنانية مع الدول العربية، إذ إن لبنان تحوّل إلى دولة تستورد السلع الغذائية من الدول العربية.

أخذ هذا التحوّل سنوات عدّة من المضيّ في الاتجاه الخطأ ليصبح واقعاً. فمع خروج لبنان من الحرب الأهلية، لم يكن هناك أيّ توجّه رسمي يسعى إلى إعادة إطلاق القطاعات الإنتاجية، ولا سيما القطاع الزراعي الذي كان لديه موطئ قدم في الأسواق العربية قبل الحرب، علماً أن تلك الفترة اللاحقة للحرب، كان فيها تدفقات مالية قادمة من الخارج على شكل استثمارات وأموال لإعادة الإعمار وغيرها وكان يمكن استخدام جزء منها لإنماء القطاعات الإنتاجية، وتمويل المؤسسات الموجودة في هذه القطاعات بهدف تحفيزها وتطويرها. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل توجّهت الدولة اللبنانية، في منهج نيوليبرالي، لفتح الأسواق اللبنانية للسلع الخارجية من خلال اتفاقيات تجارية مضرّة للإنتاج اللبناني، ومنها اتفاقية «منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى»، التي فتحت البلد أمام السلع العربية. في المقابل، أطلقت الدول العربية ولا سيما دول الخليج الصحراوية، مساراً استثمارياً في الإنتاج الزراعي خلق طفرة في الإنتاج إلى جانب الاتفاقيات الثنائية والجماعية التي فتحت السوق اللبنانية لتصبح مقصداً لتصريف البضائع المنتجة في هذه الطفرة. هكذا تحوّل لبنان إلى مستورد للسلع الزراعية من الدول العربية بدلاً من أن يكون مُصدّراً لها. ثم أتت الحرب السورية في 2011 لتقطع طريق التجارة البرية بين لبنان والدول العربية، ما أفقد لبنان ميزته في قربه من الأسواق الخليجية، وجعلت صادراته إلى هذه الدول مكلفة بسبب ارتفاع كلفة النقل.

بشكل عام، كان بإمكان لبنان أن يستفيد من مقوماته الجغرافية بشكل كبير لتحفيز الإنتاج وتنمية الاقتصاد، إلا أن السياسات الاقتصادية الفاشلة، التي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه في 2019، كانت عائقاً كبيراً أمام تحقيق هذا الهدف.

 

مصدرجريدة الأخبار - ماهر سلامة
المادة السابقةلا تهافت ولا تخزين: حركة الأسواق «ضعيفة»
المقالة القادمةلاغارد: المصارف المركزية قد تواجه تقلبات تضخمية لسنوات مقبلة