تشهد البلدات الجبلية اللبنانية حركة غير اعتيادية خلال أواخر أشهر الصيف وبداية فصل الخريف، بحيث يعمل الأهالي كخلايا النحل لتحضير أصناف كثيرة من المونة البلدية والتي تعد بمثابة الظاهرة الفريدة والاقدم في موروثات العائلة اللبنانية في الريف والقرى النائية، وعرف متناقل من جيل الى آخر حتى أضحت هذه التقاليد ذائعة الصيت ومنتشرة على نطاق واسع لبنانيا، عربيا وعالميا. وكثر من الأجانب والسواح والمغتربين ينتظرون هذا الموسم ليجهزوا مُوَنهم لفصل الشتاء الطويل والقارس، بعد ان تحول تحضير المأكولات الموسمية الى مصدر اقتصادي -غذائي رئيسي، بعد دولرة أسعار السلع الغذائية والمواد الاستهلاكية الضرورية مثل: البرغل، المربيات، الكشك الأخضر واليابس، الباميا، الفاصوليا، المخللات، اللحم المقدد، الدبس بأنواعه، الأعشاب المجففة الى جانب منتجات الالبان.
في سياق لغوي متصل، فإن كلمة “مونة” في اللغة العربية تعني ما يدخر من القوت اي “حفظ”، للدلالة على تخزين الطعام خلال فصل الشتاء والذي يبدأ بتقديد الباذنجان، البازيلاء، البندورة المقتة، الكوسا والفلفل الأخضر، الاحمر والاصفر والمنتجات الحيوانية مثل “القورما” وتلك النباتية الموسمية. هذه التقاليد ما زالت مستمرة في المناطق الريفية والجبلية، لكنها تسللت مؤخرا الى المدن بسبب الضائقة المادية والاضطراب الاقتصادي الحالي وما خلفه من تداعيات قاسية على العائلات ذات الدخل المحدود.
للمحنة المادية حسنات
لعل أبرز إيجابيات الكارثة الراهنة، انها ايقظت ذكريات الماضي في البيوت اللبنانية التي عادت الى الانتعاش والازدهار والبحبوحة، واججت أجواء التحضير للمونة التي تحمل نكهة خاصة ممزوجة بالفطرة والحياة الطبيعية والجو العائلي المتماسك، حيث يجتمع افراد العائلة حول المواقد لتحضير عصير رب البندورة، وسلق القمح الخ. وتتباهى ربات المنازل بمهارتهن في ابتكار طرق مختلفة لتصنيع الذ وأشهى المأكولات، وبعضهن يتفنن في آلية اعداد المربيات التي لم تعد تقتصر على المشمش والكرز والتين وباتت تضم مربى الباذنجان مع الجوز واللقطين والسفرجل.
كل منطقة لبنانية لها سمات مميّزة وفريدة
تتميز كل بلدة في لبنان بتقديم أصناف ذات جودة عالية في الاعداد والإنتاج وحتى الحفظ، فالزعتر البلدي، البرغل، والفريك يطيب اكله من الجنوب، اما البقاع ففاض صيته في تحضير الكشك الأخضر واليابس واللبنة المكعزلة بزيت الزيتون النضر، وتشتهر منطقة راشيا وحاصبيا بصنع دبس العنب، وللشمال حصة كبيرة بإعداد كل ما تشتهيه الانفس والاعين من المربيات التي تخطف النظر بألوانها وشكلها المتناسق الشهي.
“دست” الخير
يتحلق الجنوبي أبو عماد الى جانب “دست” كبير يُلقّم موقد النار تحته، بينما تنهمك ام عماد بمراقبة القمح وتحريكه بملعقة كبيرة من الخشب السميك تعرف بـ “المغرَفة او الخاشوقة”، تراقب المزيج باستمرار وهو يغلي، بينما يحضر نجلهما بَكرة وحبال متينة لنقل هذا الوعاء الضخم الى سطح المنزل تمهيدا لتفريغه وفرشه على ارض نظيفة ومهيأة لهذه الغاية لتنشيفه، ومن ثم لينقل الى المطحنة لإنتاج البرغل بنوعيه الخشن والناعم. وقال أبو عماد لـ “الديار”، “بعد ان أصبح الدولار على اعتاب الـ 90 الفا، فعملية التحضير كانت باهظة علينا لجهة سعر الحطب والطحن لذلك سيكون البيع بالدولار هذا الموسم. مشيرا الى ان الأسعار قد ارتفعت عن الموسم المنصرم حوالي الـ 3 اضعاف”.
بل، كسر وطحن
اما السيدة تغريد من البقاع فشرحت لـ “الديار” آلية صنع الكشك الخاصة بعائلتها فقالت: “يتكون الكشك من مشتقات اللبن واللبنة والبرغل والملح، ومرحلة تحضيره تكون على مدى أيام. ويحتاج الى عملية “البل والكسر والطحن” وكلما كان اللبن الرائب حامضا اعطى مذاقا اطيب للكشك. واردفت، “نقوم بخلط البرغل البلدي مع اللبن الرائب واضافة الملح ومزج الخليط جيدا وهذا يُسمّى بـ “البل”، وبعد ذلك يتم طحن البرغل المبلول بآلة خاصة وتعرف هذه العملية بـ “الكسر”، وبعد ان تتشرب حبوب البرغل كل المواد التي أضيفت الى المزيج يتم عجنها باللبن الرائب البلدي فتصبح كالعجينة”.
شوادر الكشك
استكملت، “بعد حوالى 10 أيام يتم دعك البرغل المعجون باللبن الرائب، والضغط عليه صباحا ومساء، ومن ثم يوضع على اقفاص خشبية عريضة لتصفيته بشكل جيد ليصبح متماسكا، ثم يفرش على أسطح المنازل على قطع قماش بيضاء مخصصة وتعرف “بالشوادر” ويجزّأ على شكل “عصورة او كمشة” صغيرة وتوزع على شادر الكشك في الشمس حتى تجف قبل ان تنقل الى المطحنة للطحن. وهذه اخر مرحلة قبل توضيب المسحوق في اوعية زجاجية محكمة الاقفال وجاهزة للاستعمال في أي وقت”. وألمحت، الى انها ستبيع كيلوات الكشك الى المغتربين والمقتدرين بعد ان أصبح سعر الكيلو الواحد يناهز الـ 20 دولارا”.
على خطٍ موازٍ، قالت السيدة فاديا من طرابلس لـ “الديار”، “ان عائلتها تحضّر في هذه الفترة أصناف غذائية محددة “على الطلب” بسبب الازمة المادية الراهنة وارتفاع أسعار المواد الاولية. تابعت، “الى جانب تقديد المقتة، ومكدوس الباذنجان ورب البندورة، نعدّ أيضا كوكتيلا يشتمل على اللوبياء، البصل، الملفوف، اللفت، الجزر والقرنبيط وهذا الخليط نبيع منه كثيرا الى اللبنانيين المغتربين وبعض السواح وسعر المرطبان (400 غ) حوالي الـ 5 دولارات. كما نعمل على تجفيف العنب لنصنع الزبيب واعددنا في وقت سابق دبس الحصرم لنستعيض به عن الحامض في المطبخ. الى جانب الأعشاب البرية من زعتر، يانسون وزهورات ولن أنسى النعناع اليابس وسعر الكيلو منه حوالى الـ 6$ كونه أساسيا في السلطات والتوابل”.
“ولعانة” الاسعار هذا العام!
يقول السيد أبو عماد ان الأسعار ستكون مختلفة عن العام الفائت والاعتماد على المغتربين والسوّاح العرب، ولفت الى ان الثمن في البلدات والقرى سيكون اقل من المحال التجارية وذلك بسبب الاستناد على افراد العائلة والمقربين بتحضير الموَن وتوفير اليد العاملة. مشيرا الى ان الأسعار لهذه السنة أصبحت على الشكل الآتي: سعر كيلو الكشك اليابس حوالى 20 دولارا بعد ان كان لا يتجاوز الـ 450 الفا في السنة الفائتة، كيلو الزعتر او الصعتر البلدي زاد 5 اضعاف هذا العام مقارنة بالموسم المنصرم وسعره أصبح حوالى الـ 25 دولارا، وسعر الملوخية حوالى 12 دولارا، أما سعر كيلو البرغل فيتأرجح ما بين الدولار والنصف، والدولارين بعد ان كان يباع في الموسم الفائت بحوالي 40 ألف ليرة”.