تتّجه الحكومة في الأيام المقبلة إلى الإمتناع عن دفع سندات “اليوروبوندز” (إستحقاق التاسع من آذار). فالوعي الوطني الذي تجلّى بأبهى صوره برفض دفع الديون، والإحتفاظ بما تبقّى من عملة صعبة لتلبية الحاجات الوطنية الأساسية، شكّل عامل ضغط إيجابياً، أتاح للحكومة أن تُفرمل اندفاعتها المشحونة بتشجيع من المصارف، من أجل تسديد السندات، وهذا جيّد. لكن أخطر ما في الأمر، هو أنه في حال اتّخذت هذا القرار، ألّا تذهب مباشرة وسريعاً إلى صندوق النقد الدولي، لأن كلفة هذا الخيار ستكون باهظة.
الظاهر برأي أحد المسؤولين، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، أن “الحكومة لن تكون بحوزتها أي خطة فعلية في الأيام القليلة المقبلة”. فعلى الرغم من صوابية ترك القرار بالدفع من عدمه إلى اللحظة الأخيرة، فانه في المقابل كان الأجدى لو تشكلت هذه الحكومة في وقت أقصر بكثير، ولم تُضع الوقت “الثمين” على التقاسم والمحاصصة، والدخول مباشرة في بناء استراتيجية متماسكة ووضع خطوط عريضة وواضحة لإدارة المرحلة المقبلة.
الحاجة إلى “الصندوق”
في الوقت الذي تعلن فيه الحكومة قرارها بعدم الدفع، تصبح الحاجة إلى تمويل من الخارج أمراً أكثر من ضروري كي يعاود البلد الوقوف على قدميه في أسرع وقت ممكن. لكن هذا الشرط من الصعب ان يتحقق في ظل غياب صندوق النقد، ومع إحجام مختلف الدول عن إقراض دولة لا تملك أدنى فكرة عن كيفية تسديد ما يتوجب عليها من ديون في المستقبل، بحسب المسؤول نفسه.
ويضيف: “القرار الصحيح بعدم الدفع يترافق مع ما يُحكى عن قرارات مجتزأة تنوي الحكومة اتخاذها، مثل إعداد مشروع قانون “الكابيتال كونترول” وملاحقة الاموال المهربة ومساعدة المودعين، وغيرها الكثير من القرارات التي ستتخذ بـ “المفرق”، في حين ان الحاجة هي إلى خطة “ماكرواقتصادية” كاملة وشاملة وموافق عليها من المدينين الجدد”. ويلفت إلى أن “لا أحد يستطيع الوقوف في وجه دولة أعلنت افلاسها مع خطة واضحة وصريحة. كما انه لن يكون هناك من محاكم دولية قادرة على إرغام البلد على ان يمارس عكس قناعاته”. ويردف قائلاً: “هنا تأتي أهمية وجود خطة متكاملة، ليس من باب الواجب فحسب، بل لان الخطة المتكاملة هي الطريقة الوحيدة التي تعبر عن المصداقية أمام المدينين في الداخل والخارج. هذا بالإضافة الى ان عدم وجود الخطة يساهم بإطالة حالة الخدر التي دخلها الإقتصاد”.
التحديات كثيرة
المسار أمام الحكومة للخروج بخطة شاملة ليس معبّداً، بل هو مليء بمطبات إعداد الخطة، ونيل موافقة مجلس الوزراء، وتحضير القوانين اللازمة والدخول في مفاوضات مع صندوق النقد، ومن ثم تنظيم المؤتمرات الدولية لدعم الخطة، وتوقيع اتفاقيات مع البنك الدولي تكفل حماية الفئات الضعيفة التي ستتأثر بشكل كبير، جراء اعتماد سياسات التقشف وتدهور سعر الصرف وفقدان الليرة لقدرتها الشرائية. فالإقتصاد برأي المصدر “سيكمل انكماشه لوقت ليس بقصير، يقدر بأربع سنوات إذا تم التعامل مع الأزمة بطريقة جدية، وجرى تذليل العقبات السياسية وإبعاد تضارب وجهات النظر داخل الحكومة، التي ما زال يرفض قسم كبير منها تدخل صندوق النقد، والأكثرية تخاف من اتخاذ الخطوات الجدية”.
القلق الدائم الذي تعيشه الحكومة من ردّ فعل المودعين “العاديين” المقدرين بأكثر من مليوني مودع، يعجزون عن الحصول على جزء من حقهم، من جهة، والإرتعاد من رد فعل “حزب الله”، الذي رفض جهاراً، مراراً وتكراراً، تدخل “أدوات الإستكبار” بالإستعانة بصندوق النقد الدولي من جهة ثانية. وجهتان لا تلتقيان. فوجود صندوق النقد الدولي كضامن للنتائج وعامل ثقة وموافق على الخطة ومراقب للإصلاحات يمثل غطاءً مطلوباً، لا بل أكثر من ضروري لمواجهة الدائنين الدوليين ووقف اندفاعهم لتحضير دعوات بالجملة والمفرق في وجه الحكومة لتخلّفهــا عن الدفع.
الذي سيحصل بعد التاسع من آذار مخيف. فالإستخفاف بالإستحقاقات المصيرية، وعدم تأمين بديل جدي وقادر، من الممكن أن يحل مكان صندوق النقد الدولي، ليغطي الـ Default المنوي الهجوم به على صناديق ودائنين ذوي باع طويل في مقاضاة المدينين، لن يعرض سمعة لبنان وأصوله للإساءة والملاحقة فحسب، إنما سيفرض ضغطاً إقتصادياً داخلياً هائلاً، ويدفع العملة اللبنانية إلى مستوى غير مسبوق من الإنخفاض.
ففي هذه الحالة سيتأكد للدائنين الدوليين انعدام جدية الحكومة على التفاوض أولاً، وعلى قدرتها على السير بحلول تحفظ أموالهم في المستقبل القريب ثانياً، أما ثالثاً والأهم فسيتأكدون من عدم قدرتها على إرجاع الديون والتعويض عنها.