أكثر من عام ونصف العام على اتخاذ القرار الشهير بالتدقيق الجنائي، والنتيجة ما زالت لا شيء. كل من في السلطتين السياسية والنقدية يعلن نيته الحسنة على الملأ، ويضمر التعطيل في الأفعال. المسار الرسمي للتدقيق الذي بدأ في 21 تموز 2020 لا يبشّر بامكانية الوصول إلى خواتيمه مهما تعددت التأكيدات على أهميته وضرورته من المعنيين.
في مثل هذا الشهر من العام 2020 سقط التدقيق الجنائي بضربة تحجّج مصرف لبنان بالسرية المصرفية لعدم تسليم الشركة الموكلة بالتحقيق “آلفاريز آند مارسال” المعلومات المطلوبة. وبعد نحو عام من الأخذ والرد والوعود بالتعاون، تخلله إصدار البرلمان قانوناً يقضي بتعليق العمل بالسرية المصرفية لمدة سنة واحدة، عاد التدقيق إلى مساره. فوقّع وزير المالية في الحكومة الجديدة يوسف الخليل عقداً جديداً مع الشركة نفسها في 19 أيلول الفائت. ولم يمضِ شهران حتى بدأ التململ يظهر على الشركة المدققة. فلوحت في 23 تشرين الثاني الحالي بفسخ العقد نتيجة عدم التعاون من المركزي.
كالعادة سارع أركان المنظومة إلى عقد الاجتماعات، التي لم تُفضِ لغاية اللحظة إلا إلى بيانات إنشائية تؤكد ضرورة تسهيل عمل الشركة وتأمين كل متطلباتها. حتى أن حاكم مصرف لبنان ذهب أبعد من ذلك مؤكداً في مقابلة صحفية أنه “يريد من الشركة أن تبدأ عمليات التدقيق الجنائي في أسرع وقت ممكن”. “هذا في الظاهر، أما في المضمون فيستمر الحاكم في وضع العوائق التي تحول دون إتمام المدقق مهمته”، تقول نقيبة “خبراء المحاسبة المجازين” سابقاً، ورئيسة جمعية “مدراء مؤهلون لمكافحة الفساد – لبنان”، الأستاذة جينا الشمّاس، ومن هذه العوائق المستخدمة:
– عدم تسليم الشركة محاضر إجتماعات المجلس المركزي بحجة عدم تفريغها ونصها. ومن دون هذه المحاضر لا يمكن للمدقق أن يعرف إن كانت القيود المالية المنفذة تعود لعمليات مصادق عليها من قبل المجلس المركزي وفق الأصول، أو أنها نفذت بناء على قرارات شخصية من الحاكم.
وبحسب الشمّاس فإن واحدة من النتائج التي قد تظهر في هذه المحاضر هي تلاعب “الحاكم” بالمعايير الدولية التي يطبقها المصرف على بياناته المالية. حيث بيّن تقرير شركة “ديلويت” في العام 2018 أن الحاكم سجل النفقات كأصول في العام 2018، فيما المعايير تنص على إمكانية استخدام بعض النفقات كأصول لمدة قصيرة جداً لا تتجاوز العامين، وبشرط تحقيقها المنفعة للمؤسسة. ستظهر المحاضر ما اذا كانت النفقات تسجل وفق المعايير الدولية ذات الصلة، أو ستثبت وجود مخالفات في هذا الصدد. إذ إن هذا التجاوز أدى إلى تراكم النفقات أقله لمدة 4 سنوات من دون أن تظهر في خانة المصروفات، ما يزيد في قيمة العجز المصرح عنها من قبل المصرف المركزي في البيانات المالية المدققة. أي أن حاكم مصرف لبنان أو المصرف المركزي تعمّد إخفاء الخسائر الفعلية التي انفجرت في وجه البلد والمواطنين في العام 2019.
ما يدل أكثر على النية المبيّتة لإفشال التدقيق هو تعيين الحاكم مدققاً خاصاً في حساباته الشخصية، والاستنتاج أنه بريء من كل الاتهامات. وبعيداً عن السؤال البديهي: كيف لشخص بهذه الخبرة حمى ثروته الخاصه ورفعها من 23 مليون دولار إلى رقم أعلى بكثير، أن يضيع ثروة البلد ويبدد كل مقدراته؟! فانه “يكفي بالتدقيق مراجعة مدى التزام الحاكم بالمادتين 70 و90 من قانون النقد والتسليف لتبيان حجم المخالفات”، من وجهة نظر الشمّاس. فـ”السياسات التي اتبعت لم تساهم بتحقيق الاستقرار النقدي كما نصت المادة 70. خصوصاً أن النص القانوني لا يعني تحقيق الاستقرار بأي ثمن كما فعل لسنوات، إنما ضمن المعايير الدولية والقانونية لتأمين هذا الاستقرار. كما انه جرت مخالفة المادة 90 التي تمنع إقراض الدولة. حيث تشير المادتان 88 و89 الى طرق وسبل والمدة الزمنية لإقراض الدولة في الحالات الاستثنائية.