التدقيق الجنائي: العقد باب جديد للعرقلة؟

المرحلة الثانية من التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان انطلقت. المصرف أعلن استعداده للتعاون وتسليم كل البيانات التي تُطلب منه. وزارة المالية راسلت «ألفاريز أند مارسال» داعية إياها إلى التفاوض على تعديل العقد، ليشمل التدقيق في كل المؤسسات العامة التي يحددها قانون تعليق العمل بالسرية المصرفية. لكن ذلك لا يعني أن الأمور ستسير على ما يرام. من عرقل التدقيق سابقاً جاهز لعرقلته مجدداً. لكن بعد إسقاط حجة السرية المصرفية، يخشى الساعون إلى كشف مغارة المصرف المركزي من أن تطال العرقلة، هذه المرة، مسار التعاقد مع أي شركة للتدقيق الجنائي.

فُتحت الطريق أمام التدقيق الجنائي مجدداً. بعد أن وقّع رئيس الجمهورية قانون تعليق العمل بقانون سرية المصارف، انتقل الصراع إلى مستوى مختلف. هل من عرقل التدقيق منذ تموز حتى اليوم قرّر التراجع والتسليم بقدر التدقيق؟ يجيب نواب دفعوا باتجاه إقرار القانون بالقول: إنه لبنان، وعلينا أن ننتظر لنرى كيف سيتصرف المتضررون. يُلمّح هؤلاء إلى أن العرقلة قد لا يكون مصدرها مصرف لبنان هذه المرة، انطلاقاً من أن القانون يفرض عليه، بشكل صريح، التعاون مع أي جهة تُكلّف بالتدقيق.

ما يؤكد ذلك، مسارعة حاكم مصرف لبنان إلى الجزم، في حديث لـ«فرانس ٢٤»، بعدم وجود نيّة لدى المصرف لعرقلة التدقيق الجنائي، مشيراً إلى أن الدليل على ذلك «أننا سلّمنا حساباتنا، وكان همّنا أن تكون هناك تغطية قانونية، وتبيّن أننا على حق، لأن مجلس النواب شعر أيضاً بأنه يجب أن يقرّ قانون».

ذلك الموقف أكدته مصادر المجلس المركزي لمصرف لبنان أيضاً، مشيرة إلى أن المصرف سيسلّم كل ما يُطلب منه، في إطار التدقيق، لأي جهة مكلفة به. أكثر من ذلك، تشير المصادر إلى أن المصرف المركزي، قبل إقرار القانون، كان شرع في إعداد الحسابات الخاصة بالدولة، بناءً على طلب وزارة المالية، وهو أنجز المهمة عملياً. أما في ما يتعلق بالحسابات الأخرى، ولا سيما تلك الخاصة بالمصارف، فقد أعلن سلامة أن هذه الحسابات، كما حسابات القطاع العام، ستسلّم تبعاً لطلب المدققين. وتأكيداً لذلك، تقول مصادر المصرف إن المديريات المعنية شرعت في إعداد البيانات المطلوبة، لكنها تنتظر تحديد المدة المطلوب التدقيق فيها، على اعتبار أن الحسابات في معظمها صارت في قسم الأرشيف. لكن مع ذلك، تؤكد المصادر أن استخراجها لا يحتاج إلى وقت طويل، وهي ستسلّم إلى وزارة المالية عبر مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان.

القانون لا يحتمل التأويل، بحسب نواب شاركوا في صياغته. حتى الإشارة إلى مسألة التوازي في التدقيق بين المصرف المركزي والمؤسسات الحكومية لا تقلقهم، انطلاقاً من أن «الاتفاق النيابي قضى بالبدء بالتدقيق من مصرف لبنان». وحتى لو لم يكن القانون واضحاً في هذا السياق، إلا أن العودة إلى المحضر يمكن أن تحسم الموقف، أضف أن لا قيمة قانونية لذكر التوازي في قرار المجلس النيابي الذي صدر رداً على رسالة رئيس الجمهورية، في ٢٧ تشرين الثاني.

القلق يتمحور عملياً حول العقد وطريقة تصرف وزارة المالية حياله. هل تسير في طريق متعرج يؤدي إلى استهلاك المزيد من الوقت وبالتالي تطيير العقد؟ هل تستكمل السياق الذي كان انطلق مع شركة «الفاريز اند مارسال» أم تبدأ التفاوض مع شركات أخرى؟ وإذ يفترض هؤلاء أن الانسحاب المفاجئ للشركة بعد الاتفاق معها على تمديد العقد الأول لثلاثة أشهر، كان بفعل ضغوط سياسية، فهذا يعني بالنسبة إليهم أن الضغط يمكن أن يتمدّد، إن عبر تأخير عملية التفاوض معها، أو عبر دفعها إلى رفض توقيع العقد، مع ما يعنيه ذلك من حاجة إلى التفاوض مع شركات أخرى، وبالتالي الاستمرار في عملية شراء الوقت، من خلال إدخال العقد في بازار الصلاحيات. عندها سيكون عنوان السجال مرتبطاً بشمول عقد كهذا بالقرار السابق المتخذ من قبل الحكومة في ٢٨ تموز الماضي من عدمه. الاحتمال الثاني يقود إلى ربط التدقيق بتأليف الحكومة الجديدة، مع ما يعنيه ذلك من تأخير إضافي، هذا مع افتراض أن سعد الحريري يمكن أن يسير بالتدقيق، متجاوزاً أنه أحد المتضررين منه.

حتى اليوم ليس واضحاً كيف ستتطور الأمور. بحسب المعلومات، وبعدما كانت «ألفاريز» أبدت استعدادها لإعادة العمل بالعقد بعد تعديله، بما يضمن تمكّنها من أداء مهمتها، راسل وزير المالية الشركة أول من أمس، داعياً إياها إلى زيارة لبنان بهدف التباحث في تعديل العقد، بما يشمل المتغيرات التي فرضها قرار مجلس النواب. فالمهام المطلوبة منها ستتغير حكماً، بعدما لم يعد التدقيق يطال حسابات مصرف لبنان فقط، بل يشمل، بحسب نص القانون، «حسابات الوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة، أياً تكن طبيعة هذه الحسابات». وهذا التعديل في المهام سيُستتبع، بطبيعة الحال، بإعادة التفاوض على مدة العمل وكلفته.
القانون يشير إلى التدقيق في حسابات مصرف لبنان وحسابات الغير المفتوحة لديه. هذا يمكن أن يظهر كل العمليات التي تمّت بينه وبين غيره. لكن الموبقات، بحسب مصدر مطلع، لم تحصل في المصرف المركزي فقط. صحيح أن التدقيق في حساباته يمكن أن يبين من استفاد من الهندسات المالية على سبيل المثال، لكنه لن يظهر الأموال التي دفعتها المصارف بطلب من سلامة أو بمبادرة منها لشراء الولاءات. تهريب الأموال بعد ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩ لم يتم على سبيل المثال بموافقة مصرف لبنان. أي مصرف يمكن أن يحوّل ما يشاء من خلال الطلب من المصارف المراسلة تحويل الأموال من حسابه إلى حساب المستفيدين. هذا يعني أن التدقيق يجب أن يطال المصارف أيضاً بالتوازي مع مصرف لبنان. هذا غير ممكن حالياً، بحسب مصدر مصرفي، يؤكد أن التدقيق في حسابات المصارف لا يتم إلا بقرار قضائي مرتبط بالشك في تبييض الأموال أو التهرّب الضريبي.

مصدرجريدة الأخبار - إيلي الفرزلي
المادة السابقةعام الانهيار والرهانات الخائبة: «تكيّف جماعي» مع اقتصاد «الكازينو»
المقالة القادمةإستيراد الفيول من “سوناطراك”: لبنان يعود إلى “بيت الطاعة”