التضخم لا يرحم

عاد التضخم بقوة وسرعة الى كل الاقتصادات. التضخم سارق لا يرحم ولا ينتظر الوقت المناسب حتى يهجم. هو موجود دائما ليسرق الأجور وأصحاب الدخل المتوسط كما ليضرب الاستقرار الاقتصادي والمالي خاصة الأسواق المالية والبورصات العالمية. يسرق الودائع التي تذوب قيمتها معه، لكن المستفيدين في نفس الوقت يكونون المدينين الذين تتقلص القيمة الحقيقية لديونهم. من السياسات التي يصعب انجاحها هي المكافحة للتضخم اذ يمتد بسرعة الى كل أنحاء الاقتصاد، فيوجه التصرفات والتوقعات وبالتالي تفشل معظم السياسات في القضاء السريع عليه. تهدف السياسات العامة الى تحقيق استقرار الأسعار لأنه المدخل الرئيسي للنمو القوي المستمر.

لا ننكر أن التقدم التكنولوجي العام أثر على الحياة وطريقة العيش كما على المناخات المسببة للتضخم. للتقدم التكنولوجي كما لكل جديد جوانب ايجابية وأخرى سلبية، لكنه في كل الأحوال أثر على كيفية عيشنا. يعتبر الاقتصاديون أن فترة 1870\2010 هي التي تأثرت كثيرا بالتقدم التكنولوجي مما يعني أنها الفترة التي وجدت خلالها 3 أمور أساسية منها تأسيس الشركات العملاقة، البدء بالبحث والتطوير خاصة الصناعيان كما انتشار العولمة في كل أنحاء الكرة الأرضية. فوائد التقدم التكنولوجي كبيرة لكنه لم يجعل المجتمعات أفضل وخاصة لم تصبح سعادة المجتمعات أعلى من السابق.

أسباب التضخم نوعان منها من يصدر عن الطلب ومنها من ينبع من العرض. ارتفاع الطلب في ظل عدم تجاوب العرض يرفع الأسعار وهذا طبيعي ومنطقي. من الممكن أن يكون مصدر التضخم ضعف العرض تماما كما يحدث الآن، حيث أسبابه هي ارتفاع أسعار الغذاء والمواد الأولية نتيجة حرب أوكرانيا كما بسبب سلاسل الامداد التي بدأت مع الكورونا وعرقلت وصول السلع الى طالبيها. المرافق العالمية الكبيرة ما زالت تحتوي على أعداد مرتفعة من الحاويات تنتظر لتفرغ بضائعها، وهذه المشكلة لم تتم السيطرة عليها. امتداد المواسم الاضرابية الى كل الدول حتى التي تنعم بمستوى دخل مرتفع يؤثر سلبا على العرض وبالتالي يولع التضخم. هنالك من يتهم الشركات الكبيرة الجشعة بالتسبب في خنق العرض لرفع الأسعار وتحقيق أرباح هائلة يطعن في شرعيتها في كل الدول. لا شك أن الجشع موجود ومحاربته تتطلب توسيع المنافسة وتطبيق القوانين المحاربة للاحتكارات الموجودة اليوم في كل الدول.

تضخم اليوم يأتي من العرض والعالم يحاول مواجهته عبر الطلب أي عبر سياسات المصرف المركزي والسياسات المالية التي تخفف ضغط الطلب على السلع والخدمات. وزارات المال تحاول ترشيد الانفاق لمنع نمو الأسعار بينما تقوم المصارف المركزية برفع الفوائد تأثيرا على طلب كل السلع والخدمات وخاصة العقارات. تخفيض الطلب أو أقله نموه ربما يسمح للعرض بالارتفاع لمواجهة الطلب وبالتالي التأثير سلبا على الأسعار. تضخم اليوم يأتي خاصة من ارتفاع أسعار المحروقات والغذاء نتيجة الحرب الأوكرانية وبالتالي حسن المعالجة يتطلب التأثير ايجابا على العرض وهذا ما لم يحصل بجدية بعد.

مشكلة العرض اليوم نابعة أيضا من شح العمالة المتخصصة التي تتطلبها الأسواق لنقل السلع عبر البحار والتي غابت بسبب الكورونا وتوجهها الى قطاعات أخرى ومهن جديدة. المطلوب زيادة انتاج الغذاء كما المحروقات أيا تكن المصادر، وهذا يتطلب الوقت والتنظيم والاستثمارات وفتح كل قنوات النقل. لا يمكن اغفال مشكلة الزيادات السكانية حيث عدد الذين في عمر الانتاج ينمو بنسب قليلة أو سلبية مما يعني أن عمالة المستقبل ستكون أقل، بل أن الحاجة الى أصول وأسواق اليوم ستكون أقل بكثير.

في 2021، ساء تقدير مقرري السياسات الأميركية لمخاطر التضخم وظنوا أن ملامحه ستكون عابرة ومؤقتة. يحاول المقررون أنفسهم اليوم تصحيح الأخطاء عبر تخفيض كبير للعجز المالي وارتفاع سريع للفوائد. هاتان السياستان ستؤديان على الأرجح الى ركود قاس ليس فقط في الولايات المتحدة وانما عالميا أيضا. التأخر في مواجهة المخاطر التضخمية أضعفت ثقة الأسواق في المسؤولين والمؤسسات العامة، وبالتالي وجب التحرك بسرعة وقوة لاستعادة هذه الثقة. كما أن التوقعات التضخمية ما زالت مرتفعة وهي من أصعب الأمور التي تواجه مسؤولي السياسات العامة. كيف يمكن اقناع المواطن والمؤسسة كما الشركة بأن التضخم سينخفض وبالتالي يخفضون توقعاتهم التي تؤثر على تصرفاتهم أي على التضخم نفسه.

ليست الدول الصناعية وحدها التي تعاني من التضخم بل معظم دول العالم. لبنان يعاني كثيرا من ارتفاع الأسعار وعدم مجاراة الدخل الفردي لها. تركيا في مأزق كبير لكن كبر الاقتصاد وارتباطه الكبير بالدول الأوروبية يخفف الأوجاع. لا أحد يحسد سريلانكا اليوم التي رفعت فوائدها دون جدوى في وقت لم يعد لها احتياطي نقدي حتى لشراء أبسط الحاجات من محروقات وغذاء. في الولايات المتحدة يتم التركيز على تحديث البنية التحتية عبر القانون الذي يسمح بانفاق 2,3% من ناتج 2022 لتحسين الطرق والنقل العام والمرافق والمياه والكهرباء. الهدف تطوير الطاقات الانتاجية التي تسمح بزيادة الانتاج.

كيف يحصل الركود التضخمي المخيف والمرجح؟ من الممكن أن يبقى الطلب الاستهلاكي مرتفعا من دون تجاوب العرض وبالتالي ترتفع الأسعار مع شح في السلع والخدمات. الحلول المتوافرة لأوضاع كهذه ليست كثيرة مما يفسر استعجال المصارف المركزية في رفع الفوائد تجنبا لحصول مأزق. هنالك أمور أساسية لا بد من ايجاد الحلول لها لمواجهة التضخم. أولا تخفيف الاعتماد على الصين في انتاج كل أنواع السلع وخاصة الالكترونيات. لا بد من مواجهة النزعات التشاؤمية من قبل المواطن والشركة التي تدفعهم الى تسريع حصول التضخم. يجب طمأنتهم عبر الرسائل التي يقوم بها المسؤولون النقديون والماليون كما السياسيون عموما. أخيرا يجب اعادة ثقة المواطن والمؤسسات بالسلطات المالية والنقدية بحيث يتجاوبون مع ما تقرره لهم، فتنخفض التكلفة على الاقتصاد.

مصدراللواء - الدكتور لويس حبيقة
المادة السابقةتفاصيل فاتورة الكهرباء بالتعرفة الجديدة
المقالة القادمةمصارف تستوفي القروض على أسعار جديدة