التضخّم المتراكم منذ بداية الأزمة بين 1178% و2157%

سجّل لبنان منذ بدء الازمة إرتفاعات متتالية في أسعار مختلف السلع والخدمات. مع كل انخفاض في سعر صرف الليرة كانت الاسعار تحلّق. نسبة الزيادة على الكثير من الاصناف تخطت 2000%. الأمر الذي دفع بالبنك الدولي في تقريره «الإنكار الكبير» لخريف 2021، إلى تصنيف لبنان الثالث عالمياً على مستوى التضخم بعد كل من فنزويلا والسودان.

ينظر إلى التضخم المعتدل «المثالي»، كحالة مرغوبة في الكثير من الاقتصاديات. فهو يعزز الانفاق، يوسع النمو، ويقلل من القيمة الحقيقية للديون. هذا بالنسبة إلى الاقتصادات الطبيعية، أما في الحالة اللبنانية فقد أدت خسارة الليرة لأكثر من 93% من قيمتها إلى أخطر ما قد يواجه الاقتصاد على الاطلاق: الركود التضخمي. ارتفاع هائل في الأسعار مع انهيار القدرة الشرائية وازدياد معدلات الفقر والبطالة، وتراجع إيرادات الخزينة واستمرار العجز في ميزاني التجارة والمدفوعات.

تجاوز مؤشر أسعار المستهلك 2000%

على عكس مختلف الدول، فان قياس معدل التضخم في لبنان «المدولر» لا يخضع فقط إلى احتساب «مؤشر أسعار المستهلك» وتحديد سنة الاساس التي يقارن على أساسها تغير الاسعار، إنما أيضاً اختلاف المعدلات بالاسعار بين الليرة والدولار، وبحسب المحافظات، وتبعاً لمعدلات الدعم التي تحظى بها بعض السلع والمنتجات، وأخذ تغير التثقيلات بعين الاعتبار، وحجم الكتلة النقدية في التداول M1. وعليه فان العملية شائكة ومعقدة وقد لا تعبر الاحصاءات، ولا سيما الرسمية منها، بالضرورة عن الارتفاع الحقيقي في الاسعار في الكثير من الأحيان.

بحسب «إدارة الاحصاء المركزي» مثلاً، وهي الجهة المسؤولة عن إصدار مؤشر أسعار المستهلك يتبين أن المؤشر سجل على الصعيد الشهري ارتفاعاً في نيسان الفائت بنسبة 7.10% بالمقارنة مع شهر آذار الذي سبقه، وارتفاعاً قدره 206,24% بالنسبة للشهر نفسه من العام الماضي 2021. أما على الصعيد السنوي فيظهر أن «مؤشر أسعار المستهلك» ارتفع بحسب «الاحصاء المركزي» منذ نهاية العام 2019 ولغاية اليوم بنسبة 1177.99%.

هذه الأرقام الرسمية «تتضاعف في حال إدخال التغيرات الصحيحة على أسعار السلع والخدمات التي لم تحتسبها إدارة الاحصاء المركزي»، بحسب الخبير في شؤون الدراسات الإحصائية والاقتصادية، ومدير كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية سابقاً الدكتور بشارة حنّا. حيث يتبين أن مؤشر اسعار الاستهلاك الحقيقي بالليرة اللبنانية ارتفع في لبنان منذ بداية الازمة لغاية أيار 2022 بنسبة 2157% وليس 1177.9%.

الجدير بالذكر أن نسبة التغير في أسعار المواد الغذائية، الالبسة، الاحذية، الاثاث، النقل، المطاعم والفنادق قد جرى تعديلها. خصوصاً أن نسبة التثقيل على المواد الغذائية ما زالت ثابتة منذ العام 2012 على 20 في حين أنها «أصبحت تشكل بين 40 و48»، بحسب حنّا. وفي حال إعادة التثقيل بحسب طرق الانفاق الجديدة فان الاسعار تكون قد ارتفعت بالدولار بأكثر من 35%.

مكافحة التضخم صعبة ولكن غير مستحيلة

في العادة لا توفر الدول طريقة سواء كانت نقدية أو مالية لمكافحة آفة التضخم. فالولايات المتحدة الاميركية على سبيل الذكر لا الحصر بدأت منذ آذار الفائت برفع معدلات الفائدة لامتصاص السيولة وتخفيض الشهية على الاقتراض. وقد وصلت معدلات الفائدة في أيّار الفائت إلى 1.75% بعدما كانت نحو صفر في العام 2020، مع التوقع أن تتجاوز 3% قبل نهاية العام. ذلك مع العلم أن معدّلات التضخم بقيت بحدود 8%. أما في لبنان فان الحل لا يمكن أن يكون نقدياً، أي من خلال رفع معدلات الفائدة في ظل انهيار القطاع المصرفي وفقدان الثقة به، أو حتى مالياً من خلال زيادة الضرائب والرسوم. إنما هذا «لا يعني أن الحل مستحيل»، بحسب حنّا. و»هو يتطلب أن تقوم المصارف التي تحوي كتلة نقدية بالعملة الصعبة تتراوح بين 20 و24 مليار دولار بوضع سياسة جدية لاعادة أموال المودعين. واذا ما أضيفت هذه السياسة على ما يختزنه الافراد من دولارات بقيمة تتراوح بين 15 و20 مليار دولار، والاحزاب بقيمة تقدّر ما بين 20 و30 مليار دولار، واحتياطي المركزي المقدر بـ 10 مليارات، إضافة إلى ذهب بقيمة 18 مليار دولار فيصبح المجموع 100 مليار دولار. وعند هذه المرحلة تبدأ الثقة بالقطاع المصرفي تعود تدريجياً ويعود المواطنون إلى الايداع في المصارف وينخفض سعر صرف الدولار مقابل الليرة إلى أقل من 15 ألف ليرة في المرحلة الاولى التي تتراوح بين 5 و7 أشهر. ومن ثم يتوقع أن ينخفض إلى ما دون 10 آلاف ليرة في المرحلة اللاحقة، وينخفض في المقابل التضخم بشكل تلقائي.

الخطأ الذي يرتكب اليوم بحق الاقتصاد من وجهة نظر حنّا هو العمل باصرار على عدم تجاوز حجم الودائع في المصارف 30 مليار دولار، بشكل أن لا يتخطى معدلها 1.5 مرة عن حجم الناتج المحلي المقدر للعام 2020 بين 18 و21 مليار دولار. وهذا لا يخدم من وجهة نظر حنّا إلا تخريب الاقتصاد. ذلك أن الناتج الحقيقي للعامين 2021 – 2022 بلغ تبعاً لدراسة أعددناها حوالى 42 مليار دولار. فالناتج الصناعي منفرداً على سبيل المثال يفوق 14 مليار دولار، فكيف يمكن أن يكون مجمل الناتج 18 ملياراً؟ إذ عند هذا المعدل تصبح الصناعة تشكل 80% من الناتج، وهذا بالطبع غير دقيق.

السيناريو الفنزولي بعيد، ولكن ليس كثيراً

على الرغم من تحقيق مؤشر أسعار الاستهلاك 2157% فان لبنان ما زال من وجهة نظر حنّا بعيداً عن السيناريو الفنزولي في حال وجود نية حقيقة للمعالجة. فاذا لم يتجاوز سعر صرف الدولار 30 ألف ليرة فان مؤشر الاسعار الذي ارتفع بمقدار 2157% يبقي لبنان بعيداً عن التضخم المفرط. وبرأيه «كل ما يحكى هو في إطار خلق واقع تهويلي على الاقتصاد والسعي إلى السيطرة السياسية على مقدرات البلد وثرواته الطبيعية».

ضريبة قسرية

«معالجة التضخم بما يمثل من حالة نقدية تتجلى في فقدان العملة لقدرتها الشرائية يكون في منع المصرف المركزي من الاستمرار في طباعة العملة لتمويل نفقات ومصاريف الدولة والتدخل في سوق القطع»، برأي الباحث الاقتصادي والقانوني في المعهد اللبناني لدراسات السوق كارابيد فكراجيان. وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال طريقة من اثنتين: إما صندوق تثبيت القطع الذي يعرف بـ currency Board، وإما الدولرة الشاملة. ولم يعد من الجائز استمرار مصرف لبنان في ممارسة الأدوار المتناقضة الثلاثة التي تتمثل في: تثبيت سعر الصرف، ضمان حرية التبادل ورؤوس الاموال، وتمويل الدولة، وعليه أن يتخلى عن واحدة منها. وبما أن التخلي عن التبادل الحر مستحيل وغير نافع، وتحرير سعر الصرف بشكل مطلق سيرتد سلباً على الفئات الافقر، ولا سيما في ظل الاختلالات السياسية والأمنية والجيو سياسية في لبنان والمنطقة، فلا يبقى إلا ضرورة التوقف عن تمويل الدولة. فالاستمرار في طباعة الاموال هو ضريبة قسرية على الأفقر، تؤدي إلى فقدان ما يمتلكونه من نقود ومدخرات. وحتى لو كانت بالدولار فان قيمتها معرضة للتراجع بين لحظة وأخرى. ولعل المثال الابرز على ذلك تراجع سعر الصرف من 37 ألف ليرة إلى أقل من 30 ألفاً عشية انتخابات رئاسة المجلس النيابي. حيث تراجع سعر الصرف بمقدار 18% فيما لم تتراجع الاسعار بالنسبة نفسها وبالسرعة ذاتها.

لا إيجابيات واحدة في التضخم

التضخم الذي يعاني منه لبنان نتيجة فقدان الليرة لأكثر من 93% من قيمتها كان يجب أن ينعكس إيجاباً على أمرين أساسيين:

– الصادارات اللبنانية حيث تزداد القدرة التنافسية للبضائع المنتجة محلياً في الاسواق الداخلية والخارجية.

– إنخفاض قيمة الديون المقومة بالعملة الوطنية وسهولة تسديدها.

ولكن هذا ما لم يحصل بعد. «فاللاستقرار المترافق مع الانهيار المتواصل والضبابية في الرؤية، فوتا على المنتجين فرصة الاستفادة من انخفاض سعر الصرف العملة»، بحسب فكراجيان. «هذا بالاضافة طبعاً إلى ما واجه المصنعين وخصوصاً المصدرين مَن عجز منهم عن تأمين أبسط متطلبات الانتاج كالكهرباء مثلاً، وعرقلة التصريف إلى الكثير من الوجهات العربية، بسبب مواقف الدولة السياسية وعدم قدرتها على ضبط تهريب الممنوعات بالشحنات الزراعية والصناعية. فتقلصت قدرة المصانع والمؤسسات الانتاجية على التوسع وزيادة المعروض من خلال الاستثمارات الجديدة»، يضيف فكراجيان. ولم تستفد القطاعات المنتجة بالشكل المنتظر من تراجع قيمة الليرة والانخفاض الكبير في اجور اليد العاملة وبقية التكاليف. أما بالنسبة إلى ديون الدولة، فان تراجع إيرادات الدولة نتيجة تراجع الاستثمارات والنمو في القطاعات المنتجة، جعلها عاجزة عن تسديد الديون التي تراجعت قيمتها بشكل كبير جداً بالليرة اللبنانية. وبدلاً من أن تعطي الدولة الحوافز لتشجيع الاستثمارات، استمرت في زيادة الضرائب التي أثبتت في كل المراحل أن نتائجها غالبا ما تكون عكسية. حيث لا تؤدي زيادتها إلى زيادة الايرادات بل العكس إلى نقصانها في الكثير من الاحيان.

أخطر ما في التضخم الكبير الذي يعاني منه لبنان هو أن «ثقله يقع على كاهل الفئات الاشد فقراً وضعفاً، فيما تستطيع الفئات الغنية، ولا سيما الفاسدة منها، أن تجيّره لمصلحتها»، برأي فكراجيان. وعليه فهو يؤدي إلى توزيع غير عادل للثروات، واتساع الهوة بين الفقراء والاغنياء.

الحساب يختلف بالدولار

بحسب بشارة حنّا فان «التغيرات في سلة السلع التي على أساسها يحتسب مؤشر أسعار الاستهلاك بحسب بنود الانفاق الاثني عشر بلغت في حال تم احتسابها بالدولار 14.5% وهي مقسمة على الشكل التالي:

السلع التي على أساسها يحتسب مؤشر أسعار الاستهلاكنسبة التغير منذ أيلول 2019 ولغاية أيار 2022 بالدولار الاميركيالمواد الغذائية والمشروبات غير الروحية170%مشروبات روحية وتبغ وتنباك86%الألبسة والاحذية224%مسكن ماء وغاز وكهرباء ومحروقات-12%أثاث وتجهيزات141%الصحة103%النقل150%الاتصالات-66%الاستجام والتسلية والثقافة-23%التعليم-59%مطاعم وفنادق222%سلع وخدمات متفرقة32.3%

تدخّل مزاجي لمصرف لبنان

يؤكد كارابيد فكراجيان أن التدخل «المزاجي» لمصرف لبنان في سوق القطع يعمق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، حيث لا يوجد معيار واضح وشفاف ومنطقي لحجم تدخله. فنرى أن التدخل يرتفع في 15 يوماً إلى اكثر من نصف مليار دولار من أموال توظيفات المصارف لديه فيما لا يتجاوز في فترات أخرى 100 مليون دولار. وهو ما يدل على امر من اثنين إما خفة في التعاطي بأرزاق الناس وأموالهم وإما عن قصد لإفادة القلة على حساب أكثرية الشعب اللبناني واقتصاده.

مواضيع ذات صلة

مصدرنداء الوطن - خالد أبو شقرا
المادة السابقةلا توجّه سياسياً ملموساً لتعديل السرية المصرفية… حتى الآن!
المقالة القادمةاللبنانيون يعودون إلى السياحة خارجاً… وتركيا أولاً