لم توفر المنظومة وسيلة إلا واستعملتها لإبراء ذمة المتسببين بالانهيار من سياسيين ومصرفيين ومسؤولين على أرفع المستويات. لم تكد تصل “لقمة” المحاسبة إلى فم “جياع” العدالة، المتطلعين إلى “جرعات” من قوانين الإصلاح والمحاسبة، حتى سحبها الرئيس المكلف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي بالتعديلات الجديدة التي ينوي إدخالها على الخطة. فالأزمة التي وصفتها تقارير الأمم المتحدة بأنها “من صنع الإنسان”، وصنّفها البنك الدولي بأنها “كساد متعمّد دبّرته قيادات النخبة التي تسيطر على مقاليد الدولة وتستأثر بمنافعها”، ما هي بالنسبة للمسؤولين اللبنانين إلا “قضاء وقدر، وكافرٌ من لا يسلّم بهما”، بحسب مصدر متابع.
فكل ما “حصل خلص” بنظر السلطة، ولنفتح صفحة جديدة على قاعدة “عفّى الله عما مضى”. نؤمم الخسائر ونبدأ دورة جديدة في الدولة “اللاطبيعية”، فلطالما نجحت هذه الاستراتيجية بعد الحرب الأهلية وبعد اجتياح “حزب الله” بيروت، فلماذا لا تنجح هذه المرة؟.
ما يطرح من أفكار لتحديد حجم الخسائر وتوزيعها مهم، إلا أنه لا يمكن أن يستتب إلا بعد تحديد المسؤوليات كمّاً ونوعاً على كل من تسبب بالانهيار. فلغاية اليوم لا يوجد مذنب واحد، سواء كان رئيساً أو وزيراً، أو مديراً عاماً أو مصرفياً أو قاضياً أو متعهداً أو حتى سمساراً… لا أحد. فبأي منطق توزع الخسائر قبل جردة الحساب وتحديد المسؤوليات. وبأي حق يعاقب من ادّخر جنى عمره في حساب مصرفي، ويتنعم صاحب الوديعة الائتمانية المشكوك بمصدرها بعدما هرّبها بالتكافل والتضامن مع “صاحبه” المصرف؟ “مقاربات كثيرة لا تعد ولا تحصى هدفها الوحيد الهروب من المحاسبة”، برأي النائب مارك ضو، و”هذا ما أكد عليه إقتراح “صندوق التعافي” من قبل الرئيس ميقاتي. فبغض النظر عن توزيع الخسائر، لا يوجد لغاية اللحظة أي بحث في آليات المحاسبة وإجراءات معاقبة كل من ارتكب هذه الجرائم”.
من الواضح أن ما سرى منذ بداية الأزمة لجهة تدفيع المواطنين الكلفة الكبرى “ما زال مستمراً على قدم وساق”، يؤكد ضو. فهم من انهارت قدرتهم الشرائية، واضطروا إلى سحب مدخراتهم بحسومات كبيرة جداً ورزح 80 في المئة منهم تحت خط الفقر. وكل المواجهات التي تخاض في وجه هذه السلطة سواء كانت عبر روابط وجمعيات المودعين، أو القضاء “ستبقى نتائجها محدودة ما لم يكن هناك حل جذري من قبل الحكومة”، يؤكد ضو، “فهناك أمر واقع لتعطيل كل الحلول الجدية يفرض من ضمن خطة القضاء على المودعين”.
إذا كان من الواضح أن التعديلات التي يحاول ميقاتي إدخالها على خطة التعافي لا تخرج من إطار “البلف” لتعويم المصرفيين على حساب الدولة والمودعين، فإن “التعليقات المسجلة في جلسة المال والموازنة التي حضرها ميقاتي أمس الأول تظهر أن هناك نقاشاً جدياً حول الموضوع”، بحسب المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية زياد عبد الصمد. و”نتيجة هذا النقاش يحددها ما إذا كان الهدف منه للمزايدة أو التوافق لايجاد مخارج عادلة وحقيقية”. ولكن في نهاية المطاف يظهر بوضوح أن هناك ضغطاً كبيراً من لوبي المصارف وجمعيتها لتعطيل أي حل يحملها المسؤولية الكبرى، والمشكلة برأي عبد الصمد أن “الطبقة السياسية هي شريكتهم بأكثر من 45 في المئة، إلا أن هذا التواطؤ يجب أن يكسر وتواجه كل الالتفافات التي تحمي الطبقة السياسية وتحمل المواطنين العبء بجدية ومسؤولية”.