التعويم ممر إلزامي لتنقية القطاع المصرفي

أتى اندلاع الأزمة الحالية، ليُعلن انهيار تاريخٍ عريقٍ من الصناعة المصرفية. وبعيداً، من النقاشات العقيمة حول الملابسات الكامنة وراءها، ما هو ثابت حتى الآن، أنَّ تأثيرها الشامل، أصاب القطاع في عمق كيانه، وارتّدت بثقلها على كاهل أموال المودعين واستثمارات العملاء.

إزاء هذا الواقع، لا بدَّ من البحث، عن الخيارات القانونية المتاحة لتنقية المنظومة المصرفية من الشوائب وفقاً لمعيار قدرة المصرف المتعثر على ردم فجوته المالية والنهوض مجدّداً لآداء دوره الطبيعي.

ولأنَّ، العلاقة بين «الثقة» و «الائتمان» في عالم الصيرفة والبنوك، وطيدة، بامتداداتها وهشّة، بتوازناتها، أدّى، ارتفاع منسوب الأول وذوبان مكوّنات الثاني إلى، الانحراف والإنفصال. لذا، يقتضي البدء، في فصل أو دمج، المسار والمصير بين المصارف العاملة، بغية التوصل إلى إيجاد الحل الملائم على قاعدة احترام استقلالية الوضع القانوني لكل شركة مصرفية.

نُقدّم في ما يلي، التعويم ضمن رؤية قانونية إصلاحية؛ أساسها، الإبقاء فقط على البنوك التي تترجم عملياً إلتزامها معيار الشفافية لضمان جودة المهنة المصرفية، وإنقاذية؛ مقياسها، الإمكانات التنافسية الذاتية لاجتياز المصرف امتحان، أهلية كفاءته الكمية واستبيان مهاراته النوعية.

وحرصاً منّا، على مقاربة الأزمة بحلولٍ، لبنانية الجذور وقانونية المنشأ، بعيدة من الشعارات الفضفاضة في مضمونها، والفارغة إلّا من الغوغائية والشعبويّة، نستعيد في الاقتراح الأول، تجربة التعويم الإلزامي استناداً لقانون توقف المصارف عن الدفع، ونستعير في الطرح الثاني تقنية التعويم الاختياري وفقاً لأحكام قانون التجارة.

أولاً- إنقاذ المصرف المتعثر تحت سلطة المحكمة: «يوروميد بنك» كنموذج،

أرسى المشرّع اللبناني، بموجب قانون 2/67، مبدأ التعويم، ويعني؛ استحداث السبل القانونية القادرة على إنقاذ الشركة المصرفية من ضائقة مالية مستحكمة، أو بعبارة أخرى، تصحيح الأوضاع المالية للمصرف الذي يعاني حالة من الشّح النقدي، بحيث يعجز معها عن دفع إلتزاماته التشغيلية، وذلك، درءاً من خطر التصفية النهائية. إعتَمد قانون إنترا تدابير خاصة، بعد إعلان توقف المصرف المعني عن الدفع، تبدأ لِزاماً بمرحلة إدارية، أولية ثم نهائية:

* المرحلة الأولى؛ تُعيِّن خلالها المحكمة لجنة إدارة، يكون فيها للمودعين الدور المباشر للبحث عن الوسائل الممكنة لضخ الأموال في المصرف المعني. ومع أنّها، تتمتع بصلاحيات مزدوجة بين الجمعية العمومية العادية ومجلس الإدارة في الشركات المساهمة، إلّا أنّ، كل محاولات اللجان الإدارية الأولى باءت بالفشل.

* المرحلة الثانية؛ تُكلَّف لها، لجنة جديدة بمرسومٍ صادرٍ عن مجلس الوزراء، وفقاً للمادة 12 المعدّلة بالمرسوم الاشتراعي 44/67، وتتألف من حاكم مصرف لبنان رئيساً وعضوية كل من، رئيس مجلس شورى الدولة ومديرعام وزارة المالية وقانوني وخبير مالي، ممّا يشير إلى تدخلٍ إستثنائيٍّ للسلطات الرسمية مقابل استبعاد الدائنين والمساهمين، بحجّة تضارب المصالح.

ديمومة المؤسسات

انطلاقاً، من اتسّاع الرقعة المشتركة بين الأزمات المصرفية، أسباباً وآثاراً وحلولاً، يعدو الإستئناس ضرورياً؛ للتشديد، على وجوب رسم معالم الأزمة بشفافية وجرأة، كمعبر إلزامي، من التشخيص إلى العلاج، وللتنويه، بإعلاء مبدأ المحافظة على استمرارية الشخصية المعنوية للشركات المصرفية، كثقافة إجتماعية محورها ديمومة المؤسسات والأعمال والقطاعات.

في هذا السياق، تَبرز قضية «يوروميد بنك» كتجربة فريدة للتعويم، بعد إعلان توقفه المؤقت عن الدفع. حيث نجحت لجنة الإدارة الثانية بإبرام إتفاقية مع «كريدي ليونيه فرنسا»، وبالرغم من إعتراضات بعض المساهمين المدلى بها، صَدَّقت محكمة الدرجة الأولى في بيروت بتاريخ 28/1/1993 على بنود الخطة الإنقاذية، وأعلنت زوال حالة توقف «يوروميد بنك» عن الدفع. وللتوضيح، نَرصد المحصّلة النهائية لهذا القرار لكونها، نواة قانونية لإعادة كفاية رأس المال، كالآتي:

 

• إعادة ترتيب الأولويات؛ بحيث يأتي إنقاذ المصرف في أعلى القائمة ليتفوّق حتى على حقوق الدائنين والمساهمين، تغليباً للمصلحة العليا للشركة على المصلحة المشتركة.

• إرساء توقف مصرف عن الدفع؛ الخط الفاصل لانطلاق رحلة البحث عن منقذ، ويترافق مع إقفاله الإلزامي دون شطبه عن لائحة المصارف، بما أنّ، قرار التوقف الآيل إلى التعويم، لا يكتسب قوة القضية المقضية ليبقى إعلان زوال هذه الحالة متاحاً فيما لو، نجحت جهود التمويل.

• ربط تنفيذ إتفاقيات التمويل في حال إبرامها بمصادقة المحكمة عليها؛ وقرارها لهذه الناحية نهائي غير قابل للاستئناف ولأي طريق من طرق المراجعة.

• تأكيد صوابية التفرّغ الإجباري عن الأسهم؛ بعد وصْف اعتراض المساهمين بالتعسّفي على اعتبار إلغاء قيمة أسهمهم الفعلية، واقع لا محال، بسبب هلاك رأس المال.

«ضربة الاكورديون»

مشهد الازدهار المصرفي العابق بالإنجازات، أفرغ أدراج المحاكم اللبنانية لسنواتٍ طويلة، من قضايا مماثلة، قبل أن يعيد الإجتهاد التجاري، لمبدأ التعويم أولويته ولحيثيات قرار «يوروميد بنك» عمقها الإقتصادي الإجتماعي. ومن مكانٍ ليس ببعيد عن هيكلية المصارف، تناغم القضاء مع موقفٍ مبدئيٍّ لمحاكم التمييز الفرنسية في خطوة جريئة ومستحدثة، تلافياً لانزلاق الشركات الضخمة بأوحال الإنهيار المالي، عُرفت في الأوساط القانونية بـ«ضربة الأكورديون».

ثانياً- «ضربة الأكورديون» بين التعويم الإختياري وثقافة الإستمرارية.

ان «ضربة الأكورديون» عملية مالية وحسابية تسعى، لامتصاص كامل الخسارة الواقعة وترميم رأس المال المستنزف وادّخار إحتياطي نقدي يُنفَق على التكاليف التشغيلية المستقبلية للحؤول دون التعرض لمخاطر قريبة. كرّستها محكمة التمييز الفرنسية بتاريخ 17/5/1994 في قضية «USINOR» الشهيرة، مرجحةً معيار المنفعة الاقتصادية العامة على المصالح الخاصة، بعد أن قضت بصحة قرار تخفيض رأس المال إلى الصفر ثم ترميمه ورفعه عبر ضخ الأموال الجديدة.

بدورها، تلقَّفت محكمة الدرجة الأولى في جبل لبنان الفرصة، وأحسنت تفكيك كل التعقيدات المالية والاجرائية، وبدّقةٍ متناهية كشفت بتاريخ 16/3/2011 النقاب عن مشروعية «ضربة الأكورديون» ومواءمتها مع المفاهيم القانونية السائدة، إذا ما أعتُمدت، تغليباً لمقتضيات المصلحة العليا باستمرارية الشركة واستجابة لمنفعة إقتصادية وإجتماعية أسمى من حقوق أقلية المساهمين.

 

للوهلة الأولى، تبدو «ضربة الأكورديون»، عملية تمويلية ساذجة نظرياً ومستحيلة تطبيقياً، لمجرّد إخضاعها لمقياس تأمين الأموال الجديدة. ولكن، هذه التسمية المستعارة من آلة الأكورديون الموسيقية، تحمل في ظروف نشأتها، ما يستدعي سماع هدوء نغماتها، بعيداً من ضجيج التوقف عن الدفع. إنّها خطة انسيابية الأبعاد، يُهيَّأ لها في المسرح المصرفي الداخلي وفق مقدّراته الذاتية، لتنتهي توليفة تقنية مضبوطة على تقلّبات الأسواق المالية ومرونة القواعد القانونية، وإيقاع القضاء اللبناني كالآتي:

• الحفاظ على الشخصية المعنوية للمصرف كشركة مساهمة.

• إرساء مبدأ توزيع عادل للأرباح تطبيقاً لموجب الاستمرارية.

• تلازم إجراءات التخفيض والزيادة بمَتن قرارٍ واحد صادر عن الجمعية العمومية غير العادية.

• تحسين صورة المصرف المالية باستيعابه الخسائر الواقعة من داخل أرقام الميزانية الجديدة.

• إعادة تكوين رأس المال بكفاية تتجاوز الخسائر الفعلية.

• ضخ أموال جديدة بالاكتتاب وبتسييل بعض أصوله وبهيكلة سياسة التسليف.

• توزيع الخسائر دون حلّ المصرف وتصفيته.

• إعطاء المساهمين القدامى أولوية الاكتتاب بالأسهم المطروحة.

• إلزام الشركاء العاجزين أو الممتنعين عن التمويل، بقرار الأكثرية.

• إخراج المساهمين الذين رفضوا المشاركة بزيادة رأس المال.

• تحديد الأكثرية نسبةً إلى الأسهم الجديدة المكتتب بها بعد الغاء الأسهم القديمة.

أزمة القطاع المصرفي هي أزمة أخلاق وضمير، وباتت تنقيته من الشوائب عَودٌ على أصالة المهنة. ولكن حذارِ من غَدِ المكابرة، حيث الشح في التدفقات بدأ يُنبئ بامتداد الجفاء.

مصدرد. سابين الكك - الجمهورية
المادة السابقةالتلاعب بالليرة: من يغطي سلامة؟
المقالة القادمةالتخطيط “الجهنّمي” لتمويل معامل الكهرباء