ما إن دخل إعلان وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في لبنان، حتى تبدل مشهد المدن اللبنانية بأكملها. ازدحام شديد على طريقي بيروت-الجنوب، وبيروت-البقاع، ناهيك عن حركة لافته في شوارع وأحياء الضاحية الجنوبية. المشهد العام بدأ يتغير تدريجياً لطي ما خلفه العدوان الإسرائيلي على البلاد لأكثر من 66 يوماً، إلا أن هذا المشهد لا ينعكس على سلوك اللبنانيين.
الخوف لا يزال مسيطراً، ليس فقط بسبب الخروقات الإسرائيلية المتكررة على مناطق في جنوب لبنان، ولكن أيضاً، بسبب الخوف من تداعيات الحرب، ومن التأثيرات الاقتصادية، ومن تكاليف إعادة الإعمار وغيرها من الملفات الضاغطة.
تغييرات مقلقة
قبل إعلان وقف إطلاق النار، كان اللبنانيون يخشون من توسع دائرة الحرب، ومن مصير مجهول ينتظرهم، ما دفعهم إلى تغيير الكثير من السلوكيات، مثل تقليص عدد الوجبات اليومية وتبدل أنماط السلة الغذائية وتقليص الانفاق العام للعائلات. إلا أن هذه السلوكيات، يبدو وكأنها مستمرة حتى مع الهدنة الحالية، وهنا لا يتعلق التغيير على مستوى الاستهلاك الفردي، بل أيضاً على مستوى المشهد الاقتصادي العام وهو ما يظهر في شهادة الكثير من اللبنانيين.
فقد ألمحت هدى ناصر الدين العائدة إلى منطقة البقاع، إلى أنها غير قادرة على استئناف حياتها الاقتصادية السابقة، سواء على مستوى شراء السلع، أو على مستوى التجهيزات لفصل الشتاء كما اعتادت سنوياً. تقول لـ”المدن”: مشهد الدمار كبير جداً، ونحتاج إلى تقليص النفقات غير الضرورية لإعادة بناء ما تم هدمه. خلال فترة النزوح، اعتادت ناصر الدين على شراء الطعام بالحصة الواحدة، وهي اليوم بعدما عادت إلى قريتها، لا تزال محافظة على شراء الفاكهة والخضار بالحبة، بدلاً من الكيلوغرام.
قد يكون التغيير الرئيسي الذي تفرضه الحروب على السلوك الاقتصادي للمواطن، تقليص عدد الوجبات، أو الاستغناء عن بعض السلع، والاعتماد على مواد غذائية ذات تكلفة مادية بسيطة. تخشى عائلات عديدة حتى من الطبقات الاجتماعية المتوسطة من توسع دائرة الإنفاق على الغذاء حتى بعد انتهاء الحرب. تقول منيرة الترك (65 عاماً) ربة منزل لـ”المدن”: بدأت بتنفيذ خطة تقشفية، بالاستغناء عن الكثير من السلع الغذائية”. بحسب الترك، فإن الضربات الإسرائيلية على بعض المناطق الجنوبية، يدفعها، إلى الاحتفاظ ببعض السيولة خوفاً من تكرار مشهد الحرب مجدداً.
ومن شأن تقليص الأصناف الغذائية أن ينعكس بطبيعة الحال على حجم الأعمال الخاصة بالتجار وأصحاب المنشأت الغذائية، وهو ما لفت إليه على سبيل المثال، رئيس النقابة اللبنانية للدواجن، وليم بطرس، الذي أكد انخفاض الاستهلاك المحلي من الدجاج والبيض بنحو 25 في المئة. بالإضافة إلى تقليص الإنفاق على بند الطعام، فإن مستلزمات أخرى، مثل شراء الثياب والأحذية، وغيرها، اختفت من خارطة الانفاق لدى الكثير من اللبنانيين.
أما على مستوى الاقتصاد العام، يمكن قراءة أبرز التغييرات من خلال:
أولاً- تراجع مستوى الأجور
يعد مستوى الأجور في لبنان منخفضاً بالمقارنة مع مستويات التضخم المرتفعة، ورغم ذلك، تفرض الحرب تغييرات واضحة على مستويات الأجور، خاصة بالنسبة للعمال المياومين، أو العمال الذين يتقاضون رواتبهم أسبوعياً. يروي أكرم الحسيني، عامل في إحدى ورش تصليح السيارات، بأن راتبه انخفض تدريجياً بعد تكثيف العمليات العسكرية في الضاحية الجنوبية، وأصبح بلا راتب منذ أكثر من 3 أسابيع، وحتى مع عودة افتتاح ورش الميكانيك، لايزال يتقاضى نصف راتب، بسبب ضعف الإقبال على تصليح السيارات.
يعيش مثل الحسيني المئات من الشباب اللبناني وتحديداً في المناطق الصناعية التي تعرضت للقضف الإسرائيلي، وهو ما أجبر أصحاب هذه المنشأت الصناعية وورش الأعمال على إقفال مؤسساتهم، خاصة وأن الجزء الكبير منها قد تضرر فعلياً بسبب الحرب، ولا يمكن إعادة تشغيلها في المرحلة الراهنة.
ثانياً: الاضطراب في النشاط الإنتاجي
الحديث عن إقفال المؤسسات الصناعية والإنتاجية في بعض المناطق التي تعرضت لقصف مستمر، ليس جديداً، ففي كل حرب، تكون هذه المؤسسة عرضة للإقفال سواء أكان إقفالا جزئياً أو تاماً.
وبحسب بعض التقارير فقد أقفلت أكثر من 250 ألف مؤسسة تجارية أبوابها بسبب الحرب، ومن المرجح أن يرتفع الرقم حتى نهاية العام، حتى مع وقف الحرب، بسبب تكاليف إعادة إعمار هذه الورش، وهو ما يعني خسارة مناطق صناعية لدورتها الإنتاجية على مستوى الدولة. في المقابل، تنشط بعض المؤسسات الأخرى في مناطق لم تتعرض للإستهداف المباشر لتعويض نقص الإنتاج، إلا أن هذا النشاط الإنتاجي ليس بالضرورة سمة إيجابية في اقتصاد لبنان، بل من شأنه أن يوسع مستقبلاً الفجوة الاقتصادية بين منطقة وأخرى، وهو ما قد يؤثر على الحركة الصناعية اللبنانية.
ثالثاً: ارتفاع نسبة اقتصاد الكاش
يخشى الكثير من اللبنانيين من تكرار سيناريو الحجز على مدخراتهم بالفريش دولار، ويلجأ كل من يتقاضى راتباً إلى سحبه مباشرة من الصراف الآلي. تجارب اللبناني مع المصارف لم تكن وردية أبداً، خاصة بعد الأزمة المالية والمصرفية عام 2019 واحتجاز مدخرات وتعويضات اللبنانيين. يقول علي حيدر (41 عاماً) الموظف في إحدى الشركات الخاصة، لـ”المدن”: رغم غياب الثقة التامة بالمصارف، إلا أنه في العامين الماضيين، تم إيداع جزء من رواتبه في المصارف، لاستخدامها في وقت الحاجة إليها، لكن وبحسب حيدر فإن الحرب الحالية بدلت هذا المفهوم، ودفعت الموظفين إلى سحب كافة رواتبهم (بالفريش دولار) من المصارف مجدداً، لمواجهة أي طارئ، أو ظرفاً امنياً مفاجئ.
رابعاً: تأجيل تسديد الرسوم والنفقات
أضف إلى ذلك، أن من أبرز الانعكاسات السلبية للحرب وما بعدها، الانقطاع عن تسديد الضرائب والرسوم، فعلى سبيل المثال، لم يسدد علي حيدر الرسوم الدراسية لأولاده رغم انتهاء الحرب، يخشى من خرق الهدنة، والعودة إلى إقفال المدارس مجدداً، وبالتالي ضياع العام الدراسي. ويقول لـ”المدن”: في ظل الأجواء الحالية، والخوف من تكرار سيناريو قطاع غزة في لبنان، وجدت أنه من الأفضل الاحتفاظ بالرسوم الدراسية، إلى حين التوصل لاتفاق نهائي في جنوب لبنان”.
يتفق سامر رعد، مع حيدر، وهو أيضاً يقوم بتأجيل تسديد الرسوم والفواتير والنفقات العامة إلى حين اتضاح سيناريوهات المرحلة الراهنة. امتنع بدوره عن تسديد رسوم ضريبية مستحقة، كما لم يسدد رسوم البلدية وغيرها، بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع.
بالمحصلة، تبعات الحرب لا تقف عند حدود إعادة الإعمار، بقدر ما لها من تأثيرات على سلوك المواطنين، وإعادة الثقة بالأوضاع السياسية والأمنية. وبات ما يمكن تسميته “اقتصاد القلق” مسيطراً على توجهات المواطنين، وعلى سلوك الكثير من التجار والصناعيين، وهو ما سيترك تبعات مالية ومصرفية واقتصادية على المدى الطويل في لبنان.