ما هو حجم الخسائر التي تكبّدها الاقتصاد اللبناني بسبب العدوان الصهيوني؟
كالعادة ثمة الكثير من التحليلات والتقديرات عن خسائر هائلة. وهذا الاستنتاج تروّج له وسائل إعلام لديها أجندات ضدّ المقاومة، وتستند إلى تقارير صادرة عن منظمات تروّج لهذه الخلاصات بهدف التهويل. الواقع، أن الخسائر تتركّز في الأصول، بينما الاقتصاد لن يخسر الكثير بعد الضربات المتتالية والعميقة التي أصابته في السنوات الست الأخيرة وأوصلته إلى القعر.
بعد الضربات المتتالية التي تلقّاها الاقتصاد اللبناني في السنوات الأخيرة، شهد هذا الاقتصاد تحوّلاً في شكله ونوعه جعله أكثر مرونة تجاه الأزمات بعدما انكمش إلى حدّه الأدنى. فهو اقتصاد «كاش» يستند بشكل أساسي إلى تحويلات المغتربين التي تمثّل نحو نصف ناتجه المحلي، وتحويلات تأتي إلى لبنان على شكل مساعدات للبنانيين والنازحين السوريين وبعض القروض والهبات من المنظمات الدولية، بالإضافة إلى تدفّقات نقدية تأتي إلى قطاع المطاعم والمقاهي والنوادي الليلية التي يكون مصدرَها الأساسي المغتربون الذين يزورون لبنان. أما الحجم المحلي لهذا الاقتصاد فلا يكاد يوازي، وفق تقديرات الخبراء، أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي.
مع ما بلغه الاقتصاد من انكماش في السنوات الماضية، أصبح صعباً أن يتلقّى لبنان ضربة اقتصادية كبيرة يظهر أثرها بشكل واضح. وقد يكون هذا الأمر، إحدى نقاط قوّة لبنان في هذه الحرب الدائرة مع العدو الذي يملك الكثير ليخسره. فعلى سبيل المثال، التحويلات القادمة إلى لبنان لن تتأثّر بالحرب، فهي قادمة من الخارج والأزمات الداخلية لا تؤثّر عليها سلباً، لأن مصدرها خارجي، لا بل يتوقع أن تزيد هذه التحويلات لأن المغتربين يسارعون إلى مساعدة عائلاتهم في لبنان. والتحويلات النقدية التي يتلقاها لبنان ليست عبارة عن تدفقات رأسمالية، كما كانت قبل الأزمة، يمكن أن تتأثر بالأوضاع الداخلية. حيث كانت تأتي رؤوس الأموال لتدخل القطاع المصرفي اللبناني لأسباب مختلفة (سواء بسبب السرية المصرفية أو بهدف الفوائد المرتفعة) أو القطاع العقاري.
من ناحية أخرى، هناك مصدر المساعدات التي من المتوقّع أن يرتفع حجمها مع قدوم الحرب. وحتى لو لم تكن هذه المساعدات نقدية، ستكون على شكل مساعدات عينية تسهم في خفض حجم الاستيراد. فعلى سبيل المثال إذا قامت إحدى الدول بإرسال مساعدات طبية، هذا الأمر سيقابله انخفاض في حجم استيراد المواد الطبية لأن المساعدات حلّت مكانها.
ليس المقصود القول إن الاقتصاد اللبناني لن يتكبّد خسارة، إنما المبالغة في الأمر تسهم في التهويل، كما أن هدفها الأساسي هو زيادة قدرة لبنان والقوى السياسية على التسوّل. فالخسارة ستكون صادمة على جانب الأصول والممتلكات المادية والبشرية وستشمل خسائر في التجارة والصناعة والزراعة بشكل جغرافي – قطاعي. إنما الاقتصاد بشكل عام، سجّل انزياحاً مع انتقال السكان من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، إلى المناطق التي استقبلت النزوح.
لذا، ما يظهر في تقرير الإسكوا الأخير عن خسائر لبنان الاقتصادية، مرتبط بالهوامش التي تتحرّك فيها القطاعات الاقتصادية. فالتقرير الذي صدر أخيراً بعنوان «التأثير المتعدّد الأبعاد للهجمات الإسرائيلية على لبنان»، يُظهر أن الأضرار الناتجة من العدوان تتركّز في قطاع الزراعة في الجنوب الذي يتمتع بظروف مناخية زراعية مثالية لزراعة مجموعة واسعة من المنتجات، بما في ذلك الزيتون والموز والتبغ والتين والحمضيات، إذ هذا القطاع يمثّل، بحسب تقديرات الإسكوا، 80% من الناتج المحلي الإجمالي لجنوب لبنان. التبغ مثلاً إحدى الزراعات التي ستنال حصّة وافرة من الخسائر باعتبار أن 50% من مزارعي التبغ هم من القرى والبلدات الواقعة على طول خط المواجهة من الناقورة إلى شبعا. ويبلغ محصول التبغ السنوي في المناطق الواقعة في المنطقة الحدودية 25 ألف طن، بقيمة لا تقل عن 12 مليون دولار.
ويشير التقرير إلى أكثر من 5600 ضربة على الجنوب في الأشهر الـ١١ الأولى من الحرب استُخدمت فيها «القنابل الفوسفورية والحارقة التي سببت أضراراً طويلة الأمد في القطاع». ففي الفترة ما بين 7 تشرين الأول 2023 و12 أيلول 2024 «تضرر نحو 1879 هكتاراً من الأراضي الزراعية الرئيسية». وقد أدّت الاعتداءات إلى «هجران 1200 هكتار من الأراضي الزراعية، وفقدان أكثر من 1700 وحدة من الماشية و390 ألف وحدة من الدواجن، وتدمير أكثر من 47 ألف شجرة زيتون». ويذهب التقرير للقول، إن هذا الضرر يهدّد فعلياً بشل القطاع الزراعي في البلد. ويشير تعداد زراعي أجرته منظمة الأغذية والزراعة ووزارة الزراعة اللبنانية في عام 2010 إلى أن إنتاج الزيتون وزيت الزيتون يمثل نحو 10% من إجمالي قيمة الإنتاج الزراعي في لبنان. وقد يختلف هذا الرقم من عام إلى آخر. ففي جنوب لبنان تنتج المنطقة حوالي 36% من زيتون البلد، وفق تقرير الإسكوا.
تشكل الاعتداءات في جنوب لبنان تهديداً خطيراً لسبل عيش الآلاف من المزارعين والعمال الزراعيين، كما يقول تقرير المنظمة. حتى المزارعون الذين لم تتضرر أراضيهم من الهجمات أوقفوا حصادهم أو تخلوا عن أراضيهم خوفاً على سلامتهم. «وجد مسح أجري في أوائل 2024 أن ما يصل إلى 26% من المزارعين لا يستطيعون الوصول إلى حقولهم أبداً، فيما لا يستطيع 63% الوصول إلى حقولهم من دون التعرض لخطر، وأفاد نحو 23% من المزارعين بانخفاض في المحاصيل، وواجه 85% صعوبات في نقل منتجاتهم، وأفاد 72% بخسارة في الدخل». إضافة إلى ذلك، تأثّرت الثروة الحرجية في الجنوب خلال الحرب أيضاً، فبحلول 11 أيلول 2024، أدّى القصف إلى تدمير 1200 هكتار من غابات البلوط الكثيفة والمنخفضة الكثافة كما تقول الإسكوا.
أما القسم الثاني، فهو قطاع السياحة الذي تأثّر بشكل لافت، حيث انخفض عدد الزوار الوافدين في أيار 2024 بنسبة 18.7% مقارنة بنفس الشهر من عام 2023. يوجد في جنوب لبنان نحو 600 مطعم متوسط وكبير، بالإضافة إلى 150 مطعماً داخل المنطقة الحدودية أُجبرت على الإغلاق. ويوجد 60 فندقاً في جنوب لبنان، معظمها مغلق حالياً. وقد تسببت الأزمات المستمرة في ضربة كبيرة لاقتصاد جنوب لبنان. وتنقل الإسكوا عن الأمين العام لجمعية السياحة اللبنانية، أن خسائر القطاع السياحي خلال الأشهر العشرة منذ تشرين الأول 2023 أكبر من 3 مليارات دولار.