رفعت أحداث الأيّام الماضية احتمالات الحرب الواسعة النطاق في لبنان، إلى أعلى مستوياتها، منذ فتح “جبهة المساندة” في الجنوب بعد عمليّة “طوفان الأقصى”. وبعد حصول الغارة على الضاحية الجنوبيّة، انشغل الرأي العام بالطابع الأمني للحدث وتداعياته، كما تركّزت المتابعات الاقتصاديّة على المسائل المرتبطة بالأمن الغذائي والصحّي وسلامة خطوط الاتصالات.
أمّا المخاطر المرتبطة بالنقد وعمليّات المصارف، فلم تحظَ باهتمامٍ مماثل، ربما على اعتبار أنّ الأزمة الاقتصاديّة ضربت أساسًا عمليّات القطاع المصرفي وانتظام عمله. بهذا المعنى، لن يكون حدثًا استثنائيًا مثلًا أن تفرض المصارف قيوداً على السحب النقدي، كما فعلت في بعض مراحل حرب العام 2006.
نوعيّة المخاطر على عمليّات النقد والمصارف
بطبيعة الحال، أجهزت السنوات الخمس الماضي على الكثير من نُظم العمل النقدي والمصرفي التقليديّة، والتي كان من الممكن أن نخشى خسارتها في حال حصول الحرب.
في حال نشوب الحرب، لن تكون الودائع التي يناهز حجمها حاليًا الـ90 مليار دولار موضع طلب من المودعين، ولن تنشغل المصارف في تأمين النقد الورقي لهذه الفئة من العملاء. والقطاع المصرفي بأسره، بما فيه مصرف لبنان، لن يكون ملزمًا بتأمين عمليّات القطع وفقًا لسعر صرف رسمي وثابت، كما كان الحال في الحرب السابقة. والكابيتال كونترول المفروض بحكم الأمر الواقع –وليس القانون- يسمح للقطاع بالتملّص من اتخاذ بعض الإجراءات الطارئة التي يجب القيام بها في حالات الطوارئ.
ومع ذلك، يبقى هناك الكثير مما ينبغي الخشية منه، والتحضير للتعامل معه في حال تحقّق السيناريوهات السيئة. المشكلة الأولى التي يمكن أن تؤثّر على عمليّات النقد في السوق، ستكون إمكانيّة انقطاع خطوط الشحن البحري والجوي، التي تؤمّن حركة الأموال النقديّة بالعملة الصعبة بين لبنان والخارج.
هذا الاحتمال، سيعني عرقلة جانبين من العمليّات النقديّة: سحب المصارف ومصرف لبنان السيولة النقديّة من الأرصدة الموجودة في الحسابات المراسلة في الخارج، وتغذية المصارف لحساباتها الموجودة هناك، من الدولارات النقديّة الموجودة في السوق المحلّي. في الحالتين، ثمّة تداعيات لهذا التطوّر.
من الناحية العمليّة، يمكن الاستعاضة عن خطوط الشحن البحريّة بالاستيراد البرّي، بالنسبة لسائر أنواع السلع الأساسيّة، مثل الأغذية والأدوية والمحروقات وغيرها. غير أنّ المشكلة الأساسيّة بالنسبة لعمليّات نقل الأموال النقديّة، هي وجود قيود مفروضة على مثل هذه العمليّات بالنسبة لسوريا، بسبب العقوبات.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن الاستعاضة عن نقل الأموال بحرّا أو جوًا بالنقل البرّي. وقد تؤدّي الحرب عمليًا إلى حصر أو عرقلة سحب وتغذية حسابات المصارف ومصرف لبنان لدى المصارف المراسلة، ما يعني اعتماد السوق المحلّي –في تداولاتها- على الدولارات الموجودة نقدًا في البلاد (أو تلك التي تدخل عبر السوق السوداء من سوريا).
المستوى الثاني من المخاطر، قد يرتبط بقرارات المصارف المراسلة نفسها، وعلاقتها مع لبنان، بمعزل عن طبيعات التحديات اللوجستيّة. إذ من المعلوم أن جميع التحويلات ما بين لبنان والخارج تمر بهذه المصارف الأجنبيّة، التي تقدّر مخاطر كل عمليّة، وتقرّر إمكانيّة تنفيذها أو طلب المزيد من المستندات التي تؤكّد سلامتها.
وكما تشدّدت المصارف الأجنبيّة في العلاقة مع لبنان بعد العام 2019، من المحتمل أن ترفع أي أحداث أمنيّة جديدة درجة وحدود هذا التشدّد. وبخلاف ما يعتقد كثيرون، لا تخضع قرارات هذه المصارف لمنطق “أبيض أو أسود”، أي قطع العلاقة أو تسهيلها مع لبنان، بل ثمّة درجات مختلفة من التشدّد أو التساهل بحسب متغيّرات كثيرة.
المستوى الأخير من المخاطر، يتسم بالطابع اللوجستي والعمليّاتي، ويربط بخطوط الاتصال القائمة مع الخارج. ببساطة، على المصارف ومصرف لبنان أن يحتفظوا بشكلٍ دائم على إمكانيّة الاتصال بالمصارف الأجنبيّة، لتنفيذ عمليّات التحويل إلى الخارج، بناءً لطلب العملاء. وانقطاع خطوط الاتصال سيعني تلقائيًا انقطاع القدرة على طلب التحويلات، أو متابعتها بعد إجرائها. وبالطبع، يمكن للمصارف أو مصرف لبنان أن تنفّذ هذه الطلبات من مراكز بديلة أو مؤقتة، داخل أو خارج لبنان.
أدوات التعامل مع المخاطر
على هذا النحو، يصبح أمامنا درجتان من المخاطر التي ينبغي التعامل معها:
– تلك المتصلة بالنقد، أي السيولة الورقيّة بالعملة الصعبة، والتي يمكن أن تتأثّر بخطوط شحن الأموال من وإلى المصارف المراسلة.
– وتلك المتصلة بالمال والعلاقة مع النظام المالي العالمي، والتي ستتأثّر بعلاقة لبنان ونظامه المالي مع المصارف المراسلة الأجنبيّة.
التعامل مع المستوى الأوّل من المخاطر يحتاج إلى وجود “مرونة نقديّة وماليّة” لدى مصرف لبنان والقطاع المصرفي، من خلال الاحتفاظ بكميات كافية من السيولة في المصارف المراسلة أولًا، وفي صناديق المصرف المركزي في لبنان ثانيًا. هذه السيولة، في لبنان والخارج، هي ما يسمح بتلبية الحاجة لاستعمال الأموال الموجودة في المصارف المراسلة، لتنفيذ التحويلات إلى الخارج. كما تسمح باستعمال السيولة النقديّة الموجودة في لبنان لتلبية حاجات سوق القطع، والحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار النقدي. بهذا المعنى: على القطاع المصرفي الموازنة بين احتياطاته الموجودة في لبنان والخارج.
حجم احتياطات مصرف لبنان الإجماليّة تجاوز الـ10.28 مليار دولار، المودعة بغالبيّتها لدى حسابات المصرف مع المصارف المراسلة. وهذه السيولة تُعتبر كافية نظريًا لتلبية أضعاف حاجة البلاد للاستيراد، خلال شهر أو شهرين من الحرب والاضطرابات، ناهيك عن حاجات القطاع العام. بهذا المعنى، يمتلك المصرف المركزي المرونة للتعامل مع المستوى الثاني من المخاطر، المرتبط بالسيولة الموجودة في الخارج.
غير أنّ المرونة المطلوبة للتعامل مع حاجات السوق المحلّي للنقد تبقى محل تساؤل، بغياب الأرقام الحديثة التي تبيّن كميّة النقد الورقي التي يملكها مصرف لبنان بالعملة الصعبة، من أصل الاحتياطات الماليّة المتوفّرة. في جميع الحالات، تشير الأرقام التي أفصح عنها مصرف لبنان خلال العام الماضي، إلى أنّ حجم النقد الورقي الذي امتلكه بالعملة الصعبة في أواخر العام 2022 بلغ حدود الملياري دولار، وهو ما يفترض أن يمثّل كمية كافية للتعامل مع حاجات سوق القطع المحلّي.
وفي الوقت نفسه، من المهم الإشارة إلى أنّ حجم الاحتياطات الإجمالي ارتفع خلال الأشهر الخمسة الماضية بنحو بنحو 818 مليون دولار، جرّاء شراء مصرف لبنان للسيولة بالعملة الصعبة من سوق القطع المحلّي. وهذه الدولارات، يفترض أن تكون قد تراكمت بالنقد الورقي لدى المصرف المركزي، وهو ما سيعطي المصرف مرونة أكبر في التعامل مع حاجات سوق القطع المحلّي. وأخيرًا، من المهم الإشارة إلى أنّ حجم السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة بات يمثّل اليوم أقل من 7% من قيمة الاحتياطات الموجودة لدى المصرف المركزي، بعد كل الانخفاض الذي طرأ على سعر صرف الليرة خلال السنوات الماضية، وهو ما يسهّل حاليًا عمليّة ضبط سعر الصرف.
أخيرًا، من المهم الإشارة إلى أنّ الدولة اللبنانيّة تمتلك في رصيدها لدى المصرف المركزي كتلة وازنة من الحسابات بالليرة والدولار النقدي و”اللولار”، إذ يتجاوز حجم حسابات القطاع العام لدى المصرف 5.16 مليار دولار أميركي. وبمعزل عن إشكاليّات ومشكل اتباع سياسة حجز هذه الإيرادات العامّة، يمكن القول أن هذه الأرصدة يمكن أن تمثّل “وسادة” ماليّة تسمح بالتعامل مع الحاجات الطارئة للقطاع العام، في حال حصول تصعيد أمني واسع النطاق. هنا، قد يصح القول المعروف: ربّ ضارّةٍ نافعة.