منذ تسرّب النسخة الأخيرة من خطة التعافي المالي، التي جرى على أساسها التفاهم المبدئي بين الحكومة وصندوق النقد، تركّزت الأنظار على الجانب المتعلّق بتوزيع الخسائر في هذه الخطّة، وتحديدًا في ما يتعلّق بمصير الودائع المصرفيّة وطريقة سدادها في المستقبل.
لكنّ التركيز على هذا الجانب وحده، غيّب البحث في تعهّدات أخرى كبيرة قدّمتها الحكومة، في كل ما يتعلّق بالسياسة الضريبيّة والماليّة للدولة. فاهتمامات صندوق النقد والشروط التي وضعها على الطاولة، والتي تم ضمّها إلى الخطّة، شملت إضافة العديد من الضرائب الجديدة وزيادة في الضرائب القائمة، بالإضافة إلى تعديل منهجيّة إعداد الموازنة ووضع آليّات حديثة لملاحقة كبار المودعين.
وفي حال تطبيق هذه الإجراءات كجزء من خطة التعافي المالي كما يشترط صندوق النقد، فمن المتوقّع أن تشهد البلاد تغييرات جذريّة على مستوى السياسات الضريبيّة والماليّة التي تعتمدها الدولة اللبنانيّة.
جزء كبير من هذه الإجراءات، سيؤدّي إلى زيادة الأعباء الضريبيّة على الفئات المحدودة الدخل، خصوصًا أن معظم الضرائب المستحدثة أو التي سيتم زيادتها لا تميّز في طبيعتها بين الطبقات الاجتماعيّة المختلفة، وهو ما سيرمي العبء الأكبر من كلفة الزيادات الضريبيّة على الفئات الأكثر هشاشة. لكن في الوقت نفسه، يبدو أن بعض هذه الخطوات ستزيد من الضغط على كبار المكلفين، من جهة تضييق الهامش الذي كان يسمح لهذه الفئات بالتهرّب الضريبي، عبر بعض الإجراءات المحكمة التي شأنها ملاحقة الضرائب المتأخّرة، وكشف المداخيل غير المصرّح عنها.
توسعة القاعدة الضريبيّة: عبء على الفقراء أولًا
“توسعة القاعدة الضريبيّة” تمثّل عنواناً رئيسياً من العناوين خطّة التعافي، وهي عبارة تعني ببساطة زيادة حجم الواردات الضريبيّة التي تتمكن الدولة من تحصيلها من المواطنين. وجزء أساسي من هذه العمليّة سيتم عبر فرض ضرائب جديدة لا تميّز بين دخل المكلفين، التي سيتحمّلون جميعهم فاتورة “توسعة القاعدة الضريبيّة”، فيما ستكون الفئات الأفقر هي الأكثر تأثرًا بهذه الضرائب. من الضرائب التي سيتم استحداثها –حسب الخطّة- خلال العام المقبل، ضريبة انتقائيّة على “المشروبات السكريّة والكحوليّة”، بالإضافة إلى ضريبة على السيّارات المستوردة، ورسوم إضافيّة على العقارات والشقق، وجميع أشكال الممتلكات المبنيّة بمعزل عن وجهة استعمالها (أقسام سكنيّة أو تجاريّة أو مضاربات عقاريّة..إلخ). كما تستهدف الحكومة، في إطار موازنة العام 2023، البحث في واردات إضافيّة يمكن أن ترفد الموازنة بعوائد ضريبيّة جديدة، بالتعاون مع صندوق النقد الذي سيقدّم مساعدة فنيّة في هذا الإطار.
بهدف “توسعة القاعدة الضريبيّة” أيضًا، تستهدف الحكومة، حسب الخطّة، زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 11% إلى 15%، وبشكل تدريجي على مدى العامين المقبلين. مع الإشارة إلى أنّ هذه الزيادة ستتوازى مع زيادة أخرى في قيمة الضريبة بعد تعديل سعر الصرف المعتمد لاحتسابها، ما سيزيد من وطأة هذه الزيادة الضريبيّة بالتحديد. كما تستهدف الحكومة في الوقت نفسه إجراء مراجعات للسياسة الجمركيّة، ونوعيّة الرسوم المفروضة على السلع المستوردة، في إشارة مباشرة إلى نيّتها زيادة بعض الرسوم الجمركيّة. وفي إطار الخطّة أيضًا، تتعهّد الحكومة بإعادة النظر في سعر الصرف المعمول به لاحتساب الرسوم الجمركيّة، وهو إجراء باشرت الحكومة تنفيذه في إطار الموازنة العامّة للعام 2022، التي تم إرسالها إلى مجلس النواب.
ملاحقة كبار المكلّفين
الجانب الآخر من الإجراءات الضريبيّة يرتبط بشكل مباشر بالخطوات التي تستهدف كبار المكلّفين ضريبيًّا، أي الشركات ورجال الأعمال الذين يترتّب عليهم متوجبات ضريبيّة تجاريّة وازنة. هذه الإجراءات تبدأ من تشكيل وحدة جديدة في وزارة الماليّة، متخصصة بملاحقة كبار المدينين المتأخرين عن سداد الضرائب المستحقة خلال الأعوام الماضية. مع الإشارة إلى أن طبيعة الأزمة التي ضربت البلاد خلال الفترة الماضية، أدّت إلى فوضى ضريبيّة واسعة، نتج عنها تخلّف فئات واسعة من التجارة والشركات عن متابعة سداد ضرائب الأرباح والقيمة المضافة. وهكذا، ستسعى الحكومة من خلال هذه الوحدة إلى “فتح الدفاتر القديمة” لتتبع الضرائب المتأخرة، ومن ثم الضغط لتحصيلها، عبر إجراءات قد تصل إلى حد وضع إشارات على الأملاك العقاريّة الخاصة بالمكلّفين المتخلفين عن الدفع. وهنا، ستسمح التعديلات على قانون السريّة المصرفيّة –إذا مرّت بنجاح في مجلس النواب- بتعزيز قدرة وزارة الماليّة على ملاحقة هذه الضرائب، عبر فتح الباب أمام تتبع الحسابات المصرفيّة الخاصّة بالمكلفين المتخلفين عن الدفع.
وبحلول نهاية العام الحالي، تعد الحكومة صندوق النقد بإطلاق برنامج خاص يسمح لكبار المكلفين بتقسيط الضرائب المستحقة خلال الأعوام الماضية، بعد تتبعها من خلال وحدة ملاحقة كبار المكلفين المتخلفين عن السداد. كما تعد الحكومة بوضع برنامج تدقيق ضريبي جديد لهذه الفئة من المكلفين، للحؤول دون تخلفهم عن سداد الضرائب التي ستستحق عليهم في المستقبل. مع العلم أن هذا البرنامج سيقوم على ربط داتا التصريح عن الأرباح بداتا الضريبة على القيمة المضافة، وداتا حركة الحسابات المصرفيّة، بعد تمرير التعديلات على قانون السريّة المصرفيّة. وفي الإطار نفسه، تعهّدت الحكومة بتطبيق برامج جديدة لملاحقة الواردات الجمركيّة، بما يسمح بتقليص حالة التهرّب من هذه الرسوم في المستقبل.
تعديل قانون المحاسبة العموميّة
حتّى اللحظة، ما زالت الدولة اللبنانيّة تعتمد قانون المحاسبة العموميّة الذي تم إقراره عام 1963، لإعداد الموازنات وقطوعات الحساب وإدارة الشأن المالي بشكل عام. وفي إطار خطّة التعافي المالي، تعهدت الحكومة بإقرار قانون جديد قبل أيلول 2023، تحت عنوان “قانون نظام الموازنة”، ليحل مكان قانون المحاسبة العموميّة القديم، بما يسمح بإيجاد حساب موحّد للخزينة لدى مصرف لبنان، وإلغاء آليات السلف النقديّة من خارج الخزينة، وفتح الباب أمام وزير المال للاطلاع على حسابات جميع المؤسسات الحكوميّة والبلديات، وربطها بالحساب الموحّد. وجميع هذه التعديلات، ستسمح خلال العام المقبل بإعداد موازنات جديدة وفق أنظمة محاسبة عموميّة حديثة، مقارنة بالقانون السابق.
باختصار، خطة التعافي المالي التي يفترض أن يتم على أساسها الدخول في برنامج قرض صندوق النقد لن تقتصر على إجراءات إعادة هيكلة المصارف ومعالجة خسائر مصرف لبنان، كما لن تقتصر على إجراءات إعادة هيكلة الدين العام كما يعتقد البعض. فالإجراءات التي يطلبها صندوق النقد، في ما يخص سياسة الدولة الضريبيّة والماليّة، ستعني إعادة هندسة خريطة الدولة اللبنانيّة الضريبيّة وآليات إنفاقها. ما يعني أن الصندوق يستهدف فرض إصلاحات وشروط تتخطى بنوعيّتها معالجة فجوة الخسائر المصرفيّة وحدها.