على طريقة: كل الدروب بتوَدّي للطاحون، فإنّ كل الخطط الحكومية للتعافي تقود الى شطب الودائع وتهديد الاقتصاد. منذ حكومة حسان دياب، تتوالى الخطط وتتنوّع تفاصيلها، لكنها ترتكز كلها على روحية واحدة مشتركة: نفض يدي الدولة من أية مسؤولية، وتحميل الاضرار الى الآخرين. وهذا التوصيف ينطبق على الخطة الحكومية الجديدة لإعادة الانتظام المالي.
سرّبت حكومة تصريف الاعمال مشروعها الجديد لإطلاق خطة للتعافي تجمع تحت رايتها مشاريع عدة، من ضمنها اعادة الودائع، هيكلة القطاع المصرفي، واعادة الانتظام المالي. ولا يمكن النقاش الموضوعي والعلمي في تفاصيل هذه الخطة قبل قراءتها بعناية، إذ يشكّل كل بند فيها مادة تحتاج الى التمعّن لاستنباط فوائدها واضرارها. ولكن، من السهل أكثر الحكم على روحية الخطة التي لا تزال تتمحور حول عناوين اساسية، يمكن اختصارها بالتالي:
أولاً – شطب مُموّه للودائع، وان اختلفت الوسائل المعتمدة للتمويه والادعاء انّ الهدف الأسمى هو ضمان اعادة الودائع.
ثانياً – تبرئة الدولة واعفائها من دفع ديونها، أو جزء منها.
ثالثاً – إعفاء مصرفها المركزي من تسديد المطلوبات والالتزامات المالية.
رابعاً – تمويه الحقائق المرتبطة بالشطب من خلال الايهام بأن صندوق استرداد الودائع اصبح امراً واقعاً، وانّ مهمة اعادة الودائع الى اصحابها منوطة به كمؤسسة مستقلة.
هذه الحقائق تشكّل العناوين العريضة للخطة الجديدة. وهي العناوين نفسها لكل الخطط الواهية التي سقطت حتى اليوم. مع التأكيد انّ أية خطة، مهما كانت سيئة ومدمّرة، هي من حيث المبدأ «أرحَم» من البقاء بلا خطة، بانتظار استنزاف ما تبقّى من قدرات واموال يمكن الاستناد اليها لبناء الخطط. وهذا يقود الى التأكيد انه لا بد من إقرار خطة، لكن ما ليس مفهوماً، لماذا على اللبنانيين ان يحصلوا على أسوأ خطة ممكنة، في حين يمكن تقديم مشروع مقبول، يُعيد الحقوق او القسم الاكبر منها الى اصحابها، من دون أن يكون ذلك على حساب الاقتصاد ومستقبله.
الطامة الكبرى في هذه الخطة انّ عناوينها العريضة نفسها فيها الكثير من التمويه والدجل. اذ كيف يمكن ضمان دفع 100 الف دولار لكل المودعين المؤهلين، و36 الف دولار للودائع غير المؤهلة، اذا كانت السيولة التي يمكن توفيرها من الاموال المتبقية في المركزي وفي المصارف لا تكفي لضمان نصف المبلغ المطلوب، والذي جرى تقديره بحوالى 30 مليار دولار. والسؤال التفصيلي الآخر: ما دامت أوضاع السيولة في المصارف غير متساوية، بما يعني ان عدداً لا يستهان به من المصارف لا يستطيع تلبية ما رسمته الحكومة على الورق، فماذا سيكون مصير مودعي هذه المصارف؟
سؤال آخر لا بد من طرحه، ودائماً ضمن مناقشة العناوين العريضة وليس التفاصيل: كيف تسمح هذه الحكومة الفاسدة بأن تُعفي نفسها من اي التزام حيال تسديد ديونها، ما دامت تعرف، خصوصاً بعد الاطلاع على تقرير التدقيق الجنائي، انها مسؤولة عن تبديد حوالى 67.5 مليار دولار حتى العام 2020، كلها أموال مَنبعها ودائع الناس؟ والأدهى في هذا الاعفاء انه شمل مصرفها المركزي. والمفارقة الفاقعة هنا انّ البنك المركزي نفسه اعترف بهذه «الديون» في بيانه المالي، وقال بوضوح انّ هذه الخسائر مسؤولة عنها الدولة، ولو انه اعترف ايضاً انّ الدولة في حالتها الحاضرة، وقبل إقرار خطة شاملة، عاجزة عن تسديد هذه الالتزامات. ولكن المفاجأة انّ الخطة التي ينتظرها الجميع، وبدلاً من تسديد الديون، قررت شطبها من سجلات الدولة، ومن سجلات مصرفها المركزي، والادعاء انها بهذه الطريقة سوف تُعيد اموال المودعين، وتعيد هيكلة وإطلاق القطاع المصرفي ليقوم بدوره في ضخّ الحياة في شرايين الاقتصاد!
مُفارقة اضافية في هذه الخطة، واذا اعتبرنا انّ الدولة غير مسؤولة بتاتاً عما جرى وأدّى الى الانهيار في اواخر العام 2019، وانّ المسؤولية يتقاسمها المودع والمصرف، لأنّ الاول وضع أمواله في المصرف، ومسؤولية المصرف انه أعاد وضع وتوظيف هذه الاموال في مصرف لبنان. فإنّ السؤال البديهي هو: من المسؤول عن تبديد حوالى 50 مليار دولار منذ الانهيار حتى اليوم؟ حيث انتفَت قدرة المودع والمصرف على اتخاذ اي قرار، واصبحت قرارات الانفاق والتبذير من مسؤولية الدولة ومصرفها المركزي حصراً، من خلال الدعم وتعاميم اعادة القروض الدولارية بالليرة. على الاقل، واذا كانت الحكومة جادّة في إقرار خطة للتعافي، عليها ان تتخذ قرارا بما يتوجّب عليها تسديده من هذا المبلغ (50 مليار دولار)، وإلّا فانّ خطتها لا يمكن تسميتها خطة، بل تصبح مخططاً مكشوفاً للقضاء على الودائع، وعلى اي أمل باستعادة العافية الاقتصادية في المستقبل القريب.